آراء حرة

مقاربة في دور الاتحاد في الحوار الوطني

لست مؤهلا  لتناول مضامين الحوار فهذه تكفلت بها لجنة دستورية مختصة عيّنها رئيس الجمهورية وتناولتها الاستشارة وإنما سأتناول بعض الإشكالات الحافة  بالحوارالوطني:

أولا ــ  أهمية دور الاتحاد في الحوار الوطني

ثانيا ــ تحديات محلية ودولية جديدة " التاريخ  لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة "

ثالثا ـــ سياقات حوار 2022 المحلية والدولية

رابعا ــ  الضوابط الموضوعية  التي  يجب أن تتوفر في الأطراف  المشاركة

خامسا ــ فاعلية المؤسسات والقوانين في الدولة المدنية

سادسا ــ  تحيين رسالة الاتحاد             

ـــ أهمية دور الاتحاد مع الحوار الوطني

للمرة الثانية بعد الثورة اسمح لنفسي بكتابة رسالة  مفتوحة لقيادة الاتحاد علها تساعد على لفت الانتباه لبعض الإشكالات المطروحة حول الحوار الوطني في هذه المحطة التاريخية المفصلية لقناعتي بأنه هو قطب الرحى في العملية لعدة أسباب :

أولا  ــ اختزانه لرصيد  من التجارب النضالية  المثمرة  سواء في مواجهة منظومة الاستبداد والفساد وفي دعم الثورة والانتصار لها أوفي البحث عن الحلول التي ساعدت على إخراج البلاد من الأزمات وخاصة أزمة الحكم سنة2013

ثانيا ــ وعيه بأنه يتحمل مسؤولية تاريخية في مساعدة رئيس الجمهورية  لإنقاذ البلاد من المأزق الحاد انطلاقا من مواقفه المبدئية إزاء الحزام الحكومي السابق وإزاء رئيس الجمهورية فهو يرفض العودة لمنظومة24 جويلية ويحمّلها مسؤولية تردي الوضع في تونس ويدعم حركة 25 جويلية لكنه في نفس الوقت  يرفض أن يعطي رئيس الدولة صكا على بياض  وان يتواصل حكم البلاد عن طريق الأحكام الاستثنائية ويطالب بوضع خارطة الطريق وتسقيف الفترة الانتقالية.فالمسؤولية كبيرة والرهان صعب لذا فهو يبحث على توفير أقصى ما يمكن من ضمانات النجاح.

IIـــ تحديات محلية ودولية جديدة " التاريخ  لايعيد نفسه إلا في شكل مهزلة "

إن الاتحاد  ــ وهو يسعى  لتوفير هذه الضمانات الموضوعية ــ في حاجة إلى توسيع زاوية المنظار الذي يشخّص به الوضع حتى تكون الرؤية أوسع وأوضح سواء على المستوى المحلي أو الدولي ، فلم يكن عقد من الثورة فراغا فقد ظهرت فعاليات محلية جديدة ونُسجت علاقات وتبلورت أطماع وطموحات وطنية  وإقليمية ودولية لم تكن موجودة سنة 2013 . لذا كان على الاتحاد أن يستوعبها حتى يحيّن دوره وكان دوما يفعل ذلك ، وهومن أهم أسباب نجاحه في مسيرته التاريخية. في هذه المحطة يرفض أن يكون له" دور صوري وأن يساهم  في حوار مخرجاته جاهزة مسبقا"، من حقه أن يفعل ذلك لكن من واجبه أيضا ألاّ يتوخى " منهجية القياس الفلسفي الصوري" فيقس حوار2022  على 2013 فالتحديات غير التحديات والأطراف غير الأطراف.

لست مؤهلا لأن أعطي للاتحاد مواعظ أو دروسا فلقياداته من الزاد المعرفي ومن الخبرة ما يغنيهما عن ذلك، لكن هذا لا يمنعني  من أن أسلّط بعض الأضواء الكاشفة على المفارقة بين التجربتين:

أولا   ــ تجربة مبادرة الاتحاد2013

انطلقت مبادرة الرباعي الراعي للحوار من تقصير وقصور الائتلاف الثلاثي الحاكم (النهضة ، المؤتمر والتكتل)عن انجاز المهمة الرئيسية وهي صياغة الدستور في حيز زمني لا يتجاوز السنة، ترافق ذلك مع توجيه العديد من التهم للإسلام السياسي : الغنيمة، التصفيات والسيطرة على مفاصل الدولة.هذا التوجه وجد قبولا لدى الدول النافذة وتحديدا الاتحاد الأوروبي المعادي للإسلام السياسي في البداية وكان مستاء من غياب الدولة العميقة من الساحة الوطنية وخروج تونس من حديقته الخلفية، فالمبادرة جاءت لإصلاح خلل داخلي لا يتعارض مع رغبة القوى الخارجية في تواجد الدولة  العميقة حليفتها التاريخية ولا يتناقض  مع مصالحها.فلنتذكّر نتائج مخرجات المسار الحكومي الذي افرز المهدي جمعة رئيسا للحكومة والذي لم يجد قبولا إلا لدى الإسلام السياسي والاتحادالأوروبي وأساسا ألمانيا وقبل نهاية مهمته عبّرعن رغبته في الترشح للرئاسة لولا تصدي الاتحاد ممثلا في سامي الطاهري كما حاول الاستثمار في غازالشيست الملوث في القيروان لولااعتراض المجتمع المدني،لذا شجّع الاتحاد الأوروبي مبادرة الرباعي  الراعي  للحوار ومولها بل اسند لها جائزة نوبل للسلام.

 ثانيا  ـــ مبادرة حركة التصحيح2022

تتمايز هذه المبادرة بشمولية الرؤية ونضج التجربة والجرأة في التعاطي مع الأطراف الفاعلة محليا وإقليميا ودوليا. انطلقتْ حركة التصحيح من توجيه التهمة للإسلام السياسي والثورة المضادة ــ بكل السلالات والمتحورات ــ بالتفريط في الثورة من أجل التموقع والغنيمة ونادت  بالعودة لمنابع الثورة وتحقيق انتظارات الجماهير المنتفضة يوم 17 ديسمبر بل اعتبرت  ما حدث يوم14 جانفي هو اختطاف لأحلامها ، تجسد ذلك من خلال التوافق المغشوش بين الثورة المضادة والإسلام السياسي فالتقى الخطان المتوازيان بعد انتخابات 2014 وصارا وجهين لعملة واحدة وتواصل ذلك  بعد انتخابات 2019 مع تغيير في قطع الغيار.

هذا التحالف بين الثورة المضادة والإسلام السياسي وجد صداه لدى القوى الدولية النافذة التي كانت تتوجس خيفة من الثورة في تونس ،وهي التي أوقدت الحرائق في مصر وسوريا وليبيا واليمن  لكن سرعان ما سخّرت لها  القوى الاستعمارية  فرق المطافئ فأخمدت نيرانها لكن إلى حين، فالجمر مازال تحت الرماد . لذا لم تقتصر مبادرة25جويلية على تصحيح الأوضاع في الداخل بل عملت على  تغيير نمط العلاقة التي تربط تونس بالدول المهيمنة اقتصاديا وسياسيا ،ومن هنا جاء طرح السيادة الوطنية وهي بدون شك طرح جديد مرفوض بالنسبة لمعسكر عاشت تونس تحت مظلته كدولة تابعة لأكثر من ستة عقود قبل الثورة وبعدها، وكان من الطبيعي أن يضع كل العراقيل  الاقتصادية والسياسية أمامها. وبالتالي فمبادرة  الاتحاد سنة2013 لم تكن متعارضة مع الخلفية السياسية للدول الأوروبية الراغبة في تغيير موازين القوى لصالح الثورة المضادة في الداخل التي تمكنت بعد 2014من العودة  وتقاسم الغنيمة والتموقع مع الإسلام السياسي ،أما مبادر ة الحوار سنة 2022 فهي في تناقض تام  مع تحالف الثورة المضادة والإسلام السياسي ــ الذي وقع ترويضه وتوظيفه ــ في الداخل، وهي في نفس الوقت  تتناقض مع رغبة الدول الاستعمارية في إبقاء تونس حديقة خلفية تابعة.فعلى الاتحاد أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المفارقة حتى يحدد دوره ويحيّن رسالته.

III ـــ السياق التاريخي للحوار الوطني2022

 تجابه حركة التصحيح تحديين هامين : قوى  الشد إلى الوراء على المستوى الداخلي ورغبة الدول النافذة في استمرارية هيمنتها على  تونس،  بالإضافة إلى الأسلوب  الذي يتوخاه رئيس الدولة في الانفراد باتخاذ القرار

أولا ــ التحديات الداخلية : قوى الشد إلى الوراء

1 ــ جبهة الخلاص الوطني :

تشكلت من خمس مكونات " النهضة ، ائتلاف الكرامة، قلب تونس ، حزب الإرادة وأمل"ولم تستطع ان تستقطب حتى مشتقات النداء( تحيا تونس، المشروع وغيرهما)  ولا نتحدث عن بقية المكونات بكل أصنافها التي لها موقف رافض او نقدي من التفرد بالقرار لكن كلها ترفض العودة إلى منظومة24 جويلية .وترفض هذه الجبهة تقديم نقد ذاتي واعتذارعن  الأخطاء  التي ارتكبت خلال عقد من  مسارالثورة  وتنحصر مهمنها في ضرب مصداقية  رئيس الجمهورية محليا ودوليا وعرقلة الإصلاحات.  في هذا الإطار يمكن أن أشير إلى :

 أــ مساعي الرئيس السابق المرزوقي

من المؤلم أن  يهوي الرئيس السابق ــ المعروف بنزاهته ونظافته ــ إلى هذا الدرك ويشعر بنشوة الانتصار عندما تأجلت قمة الدول الفرانكفونية  وهو يعرف جيدا لماذا نشأت؟ وكيف نشأت ؟ومن هم أقطابها؟ وما علاقتهم بفرنسا ؟ ولعل السيد المرزوقي ـ الذي يتهم قيس سعيد بالتفرد بالسلطة ــ يتذكر لماذا انتهى  حزب الإرادة بعد أن  انسحب منه حوالي 80 إطارا من أفضل الإطارات أليست نفس التهمة التي وجّهها لك زملاؤك وتوجّهها أنت الآن لزميلك؟ والفرق الوحيد هوانه يطرح استقلالية القرارالوطني عن الدول التي تستعديهاعليه وعلى دولتك؟

ب ــ دور الإسلام السياسي إقليميا ودوليا

لم يكن الدور الذي لعبه الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي وخاصة مع تركيا خافيا فقد اعتبر الرئيس اردوغان ما حدث "اعتداء على إرادة الشعب" مما اضطر قيس سعيد للرد عليه "إن تونس ليست في حاجة إلى فرمان عثماني"

 أما على المستوى الدولي فقد اتضح لكل بصر وبصرية أن علاقة الإسلام السياسي بالمعسكر الانجلو/ سكسوني هي علاقة إستراتيجية  فاللوبيات المتضامنة مع الإسلام السياسي ما لبثت تضغط على الإدارة الأمريكية : بالعرائض وبعثات الكونغرس. كانت الحكومة الأمريكية تتابع بدقة عبر زيارات ميدانية واتصالات مباشرة مع الفعاليات الوطنية لكنها كانت دوما تحافظ على مصلحها الإستراتيجية  فلم تقطع لحد شعرة معاوية مع قيس سعيد ولم تسم عملية 25 جويلية بالانقلاب ومازالت تلح على العودة للمسار الديمقراطي دون تبنّي شعار الثورة والإسلام السياسي"رفض الانقلاب والعودة  للشرعية البرلمانية"

 2ـــ  "الحزب الدستوري :يرفض الثورة ويتغذى من حصادها

يشكل هذا الحزب ــ بعد تشظي  النداء  ــ مركز ثقل الثورة المضادة .فهو يقوم كسلفه غير الصالح  على تضخم الأنا ــ وأساسا زعيمته عبيرموسي ــ ويرفع شعار البورقيبية كرمز للحداثة  في مواجهة الظلامية  لكنه يتناسى جوهرها الحقيقي وهي<< عملقة الزعيم وتقزيم  الشعب في الداخل والمقايضة مع الخارج>> وتسعى  لأن تفتك الزعامة من كل الفصائل المتحورة عن السلالة الدستورية فهي تتهمهم  بالانحراف عن الخط البورقيبي  والمقايضة  عليه مع الإسلام السياسي، وما زال يأخذها الحنين لمنظومة الاستبداد والفساد ولم تدخل  المربع الديمقراطي للثورة ولكنها تتمتع بحصادها من الحرية،  وفي نفس الوقت تلعنها  وتعتبرها مؤامرة أمريكية  وتزايد على سلالاتها  بداية من السيد الباجي إلى بقية الشظايا وهي لا تدرك أن الإسلام السياسي  والثورة المضادة  ــ التي يشكّل الحزب  الدستوري موضوعيا  جزءا لا يتجزأ منها ــ  وجهان لعملة واحدة رغم اختلاف المرجعيات فالمرجعية الحداثية للبورقيبة لم تمنعه من إسالة دماء التونسيين بغزارة والمرجعية الإسلامية للإسلام السياسي شجعته على سفك الدماء في سوريا والعراق وليبيا، وعندما مارسا السلطة  في تونس وظّفا نفس الآليات للسيطرة على الحكم : فقد استنسخ الإسلام السياسي  نفس الآليات التي  حكم بها بورقيبة مع دولة الاستقلال :المقايضة، الغنيمة، السيطرة على مفاصل الدولة، المحسوبية ،استعمال الميليشيا، الاستقواء بدولة أجنبية، الزعامتية ،عملقة البطل وتقزيم الشعب ،الغاية تبرر الوسيلة وسياسة الإقصاء التي توخاها الحزب الدستوري ولم تستطع النهضة استعمالها لاختلاف الظروف.

 مع  الثورة عُقد توافق مغشوش بين الإسلام السياسي والثورة المضادة وكان الحزب الدستوري أول المستفيدين منه فهو يسبّ ويشتم ويعرقل ويمارس الفوضى الخلاقة في أجلى مظاهرها  حتى ساد العنف المادي والمعنوي  داخل المؤسسة التشريعية  بين هذا الحزب وفصيل آخر من الإسلام السياسي (ائتلاف الكرامة ) كان أشد تطرفا فكانت عبير موسي عرضة للصفع واللطم والركل.إنه أسوأ ارتسام  يسجلّه العالم  عن فشل الحرية في تونس بعد الثورة.

مع حركة 25 جويلية سايرت عبير موسي في البداية قيس سعيد وسرعان ما انقلبت عليه يوم 29جويلية لأنها أدركت انه افتك منها رصيدها في مناهضة الإسلام السياسي الذي تتمعش منه وكانت أفضل وسيلة لها هي أن تماهي بين قيس سعيد و النهضة، ولعلها بذلك  تحافظ على خط سيرها في معاداة الإسلام السياسي. ومن الطبيعي أن تلتقي في نفس الأهداف مع كل القوى المناوئة لتصحيح مسار الثورة في الداخل والخارج ،وهي اشد التصاقا  بمعسكر الاتحاد الأوروبي، وهو وإن كان يتنافس مع الأمريكان والانجليز فإنهما يلتقيان في رفض خروج تونس من مظلتهما ، فالسيادة الوطنية هي خطيئة سياسية كبرى للأمريكان وللاتحاد الأوروبي لا يجب أن تمرّ.وقد وجدت عبير موسى حظوة في عدة منصات إعلامية ودعما من فطاحل جنادرة الثورة المضادة، وباختصار فهذا الحزب لا يقل خطورة في حمولته الفكرية ومنهجه السياسي  عن الحزام البرلماني السابق.

3ــ ثقوب قي قصر قرطاج : نادية عكاشة نمودجا

ظهرت في تونس مدرسة  الجحود ونكران الجميل منذ زمن بعيد. هذه الظاهرة لم تنفرد بها بلادنا فقد كتب شكسبيرفي مسرحية يوليوس قيصر"حتى أنت يابروتوس" وهي آخر جملة نطق بها قيصر ــ وهو ينزف ــ عندما عرف أن صديقه ومكمن سره كان في مقدمة الذين طعنوه في الظهر. وقد عرفت تونس ما أطلق عليه "العصفور النادر " ، استعملت مع يوسف الشاهد  الذي اختاره الباجي كابن روحي له ليسند له رئاسة الحكومة بعد إقصاء الحبيب الصيد فتعاون مع  الخصم "النهضة "لتهميش ولي نعمته. هذه التجربة تكررت مع  العصفور النادر الثاني  هشام الشيشي  الذي اختاره  قيس سعيد ثم انقلب عليه  متواطئا مع الإسلام السياسي والثورة المضادة ثم يأتي الثقب الثالث في قصر قرطاج وهو الأخطر حين  سمحت  نادية عكاشة  لنفسها بنشر12 فيديو هدفها تشويه صورة رئيس الدولة وهو رصيده المعنوي ورأسماله السياسي في مجابهة التحديات في الداخل والخارج.وهي التي اختارها الرئيس مديرة لديوانه  ورفيقته في حله وترحاله ويبدو أنه وجد فيها  الشخصية  الديناميكية  التي كان يبحث عنها لإحداث حراك في الحياة السياسية فكانت الشابة المثقفة المؤهلة أكثر  من غيرها للقيام بهذا الدور، غير أنها كغيرها ممن تضخمت لديهم" الأنا " كانت  عابرة للقيم الأخلاقية  فيبدو أنها وقعت ــ عن وعي أو غير وعي ــ في شباك الفرانكفونية

أن التقاء هذه الأطياف  في الأهداف  والتزامن في الإحداث لم يكونا  صدفة بل  كل المؤشرات تدل على أنها تتنزل ضمن مخطط  مخابراتي أُعدّ بإحكام  يستهدف زعزعة أركان الدولة من خلال ضرب  المبادرة التصحيحية  بعد أن تعذّر ضربها من الداخل  لتماسك بنيتها أو من الخارج  للدور الذي تلعبه الجزائر الشقيقة الكبرى  في حماية تونس.

إن هذه التحديات تحتم  على الاتحاد والفعاليات الوطنية  الراعية للحوار أو التي يمكن أن ترعاه وضع ضوابط سياسية للمشاركة  في الحوار على أساسها تقع غربلة مكونات المشهد السياسي حتى لا يتحول  إلى منصة إعلامية للمزايدة.

IV  ـــ ضوابط موضوعية للمشاركة  في الحوار

 إن البداية  ستكون من يحق له المشاركة من الأحزاب والمنظمات؟ إنها إشكالية صعبة في ظل التموقعات الحاصلة والمواقف المتباعدة لكنها ضرورية لحل ألازمة الراهنة ولاستمرارية تواصل أطراف المشهد السياسي في المستقبل. فمن هذه الأطراف من مازال يحن لمنظومة الاستبداد والفساد خارج مربع الثورة، ومنهم من لا يعترف بالمجتمع المدني والحقوق الإنسانية بما فيها بما حق المرأة في المساواة ويشيطن الاتحاد ويتحدى رئيس الجمهورية، ومنهم من مازال  يعتبر  نفسه  امتدادا لقوى إقليمية او دولية، منها يتغذى  وفي كوكبها يتحرك .

وفي تقديري يمكن  للاتحاد  ولفعاليات  الحوار أن تضع ضوابط في أطار مربع الثورة وانتظاراتها. والإشكال هو : هل تكون هذه الضوابط معيارا لقبول الأطراف المشاركة في الحوار كما يطالب رئيس الدولة "لا حوار مع الفاسدين" أم ستكون التزامات  ضمن مخرجات الحوار  يتعهد بها من يروم المساهمة في بناء تونس اليوم وغدا. بهذه المعايير يمكن أن نحدّ من فوضى الإسهال اللفظي الذي طغى على الساحة وليس له من هدف غير المزايدة ومن هذه المعايير التي أراها جديرة بان تؤخذ بعين الاعتبار:

 أولا ــ الولاء للوطن

قد يتصور البعض انه من العبث التأكيد على الولاء للوطن فالجميع يحبه وقد أكدته امرأة بسيطة من الجنوب قائلة<< وطني قبل بطني>> لكن التاريخ يؤكد أن" مقايضة  السلطة بالوطن" ليست ظاهرة غريبة في بلادنا ،وهذا ما جعل  التونسيين المتابعين للحياة السياسية مسكونين  بهاجس الخوف من التدخلات الخارجية، يكفي أن استحضر بعض المحطات من التاريخ على المدى المتوسط والقريب الذي يعرفه الكثيرون  ويتناساه البعض ، فيها صفحات  سوداء وأخرى مشرقة قبل الثورة وبعدها.

1ــ صفحات سوداء

كان فيها التدخل الأجنبي وراء الكوارث التي عانت منها تونس وما زالت تعاني

أـــ احتلال تونس 1881، نتيجة  لارتهانها المالي للدول الاستعمارية التي تدخلت  ضمانا لمصالحها

بــ التجاء بورقيبة سنة 1956للقوات الفرنسية لحسم الصراع مع أخيه وعدوه ابن يوسف فتركت في الشعب التونسي جراحا غائرة

ج ــ محاولة الهادي نويرة الاستقواء بفرنسا في 26 جانفي1978 إذا تصاعد الصراع وآل لتدخّل ليبي

2 ــ صفحات مشرقة

أــ رفض الدولة الوطنية توسيع القاعدة العسكرية الفرنسية فكانت معركة الجلاء ــ بما لها وما عليها ـ فرغم إرادة الدولة للتصدي للتوسع الاستعماري فإن المعركة لم تكن خالية من خلفية سياسية محلية آلت  لتصفية ابن يوسف تحت غبار المعركة.

بــ رفض بورقيبة الاستنجاد بالدول الأوروبية لرد الفعل على الجزائر وليبيا إثر الهجوم على مدينة قفصة انطلاقا منهما سنة 1980

ج ــ رفض الرئيس ابن علي الاستجابة لعرض فرنسا بالتدخل العسكري لضرب الثورة سنة 2011انطلاقا من مدينة القصرين حيث فضّل الرحيل والنجاة بنفسه وبعائلته على الالتجاء لفرنسا  والمزيد من سفك الدماء

 لم تُطو الصفحات  السوداء بعد الثورة فقد مارسها الإسلام السياسي والثورة المضادة ،فإذا تجاوزنا الصفقات التي لا نعرف عنها الكثير ،فهناك محطتان لا يمكن أن تغيبا عن ذاكرة الشعب التونسي.

د ــ عقد مؤتمر أصدقاء سوريا الاستعماري  يوم 24 فيفري2012 استجابة  <<لدعوة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بعد الفيتوالروسي والصيني بتشكيل "جمعية أصدقاء سوريا>>وحضره أكثر من 60 دولة أوروبية وعربية وفي مقدمتهم أمريكيا( هيلاري كلينتون) .تبناه  ورعاه الإسلام السياسي وكان منطلقا لتسفير الآلاف من  الشباب  نساء ورجالا  ليكونوا وقودا للأطماع الاستعمارية في الوطن العربي واحتلت تونس رقما قياسا في تجنيد الإرهابيين  فكانوا معاول هدم لسوريا وللعراق وليبيا  ثم تسليم  اللاجئ محمود البغدادي لحكم سلفي تسوده الفوضى.

 

 

هــ اقحام تونس بالحلف الأطلسي كعضو متميز

ورّطت الثورة المضادة بقيادة المرحوم الباجي تونس  في الالتحاق  بالحلف الأطلسي حيث استجاب في شهر جوان2015 لدعوة  الرئيس  اوباما و<<وقعا مذكرة تفاهم تقضي بمنحها صفة حليف خارج الناتو>> لتكون  بذلك  تونس عضوا غير رسمي صحبة 17 عضوا منهم مصر والأردن والكيان الصهيوني . ويشكّل  هذا التحالف تهديدا غير مباشر للشقيقة الجزائر

ثانيا  ــ  ثورة 17ديسمبر/14 جانفي: استحقاق شعبي وتراكم نضالي

هي إنجاز  تاريخي حققته الجماهير رفضا لسياسة الاستبداد والفساد وليست مؤامرة أمريكية كما يُروّج لها أنصار الثورة المضادة ،فالتدخل الخارجي لا يصنع الثورات وإنما يوظفها  ويستغلها ويحول وجهتها  لصالحه، فالشعب صنع الثورة عبر ستة عقود وتحمل فيها الوطنيون معاناة قاسية: قتلا وسجنا وتعذيبا وتشريدا، سالت فيها دماء الأحرار بغزارة منذ فجر الاستقلال.فلا مجال لأن يجلس على طاولة الحوار من مازال يمجّد منظومة الاستبداد والفساد التي عانى الشعب من ويلاتها وصادرت إرادة الشعب لاكثر5 عقود ولم يعترف للشعب بالخطيئة.

ثالثا   ـــ حركة 25جويلية : عملية تصحيحية لمسار الثورة

من العبث ان نعتبر عشرية الثورة لوحة سوداء فقد أخرجت تونس من مرحلة مجتمع  الدولة ــ التي يحكمها الحزب الواحد والزعيم الأوحد   ــ إلى مرحلة دولة المجتمع التي تؤثثها المؤسسات وتحتكم للقوانين لكنها انحرفت عن مبادئها وضاعت قيمها نتيجة لوفاق مغشوش بين الثورة المضادة والإسلام السياسي من اجل التموقع والغنيمة، وصارت رهينة لمحاصصات حزبية مصلحية ضيقة تفككت فيها الدولة وتحولت إلى ما يشبه الدويلات، وهي مواقع ثقل سياسي ومراكز نفوذ اقتصادي ومالي فشوهت المؤسسات  التي قامت بعد الثورة وأفرغتها من بُعدها الديمقراطي وأهمها المؤسسة التشريعية التي صارت منبرا للرداءة وعجزت على استكمال مؤسسات الدولة ،وقد تجلى انهيارها ــ بشكل لا لبس فيه في تنازع الصلاحيات ــ بين رئيس السلطة التشريعية الذي صارت له علاقاته الإقليمية والدولية الخاصة، والسلطة التنفيذية برأسيها :رئيس الحكومة المترنح ورئيس الجمهورية الذي وجد نفسه مسلوب الصلاحيات فاستثمر استيعابه لتناقضات الدستور حمالة الأوجه فاستند إلى الفصل80ليجمّد المؤسسات المعطلة للثورة وليستعيد سلطة الدولةمن الدويلات التي تحكم بالمحاصصة وليحدث حراكا مازال يعيش مخاضا عسيرا لكنه جب ّما قبله وأنهاه. 

هذا الوضع المتردي طوال عقد كان له تداعيات مباشرة على  ما تعيشه تونس من أزمات اقتصادية واجتماعية اضطر البلاد إلى الالتجاء  إلى الأسواق المالية العالمية الخاضعة للدول النافذة التي لا تتصدق وإنما تساوم وتقايض.

 هكذا استيقظت من جديد مطامع الدول النافذة الإقليمية والعالمية فصارت تنسج علاقات مريبة عن طريق التنظيمات والمنظمات لضمان مصالحها على حساب سيادة تونس والمغرب العربي وأساسا الجزائر .

فحركة 25جويلية ــ بما لها وما عليها ــ أول مبادرة جريئة لــ :

 1 ــ تصحيح مسار ثوري انحرف

 2ــ استرجاع  لسلطة الدولة من الدويلات  الفاسدة  في الداخل

3ــ محاولة لاستعادة سيادة الدولة من أطماع الدول الاستعمارية في الخارج

V ـــ الإقرار بدور المؤسسات في الدولة المدنية

إن الدول المستقرة هي التي  تقوم على المؤسسات وتحتكم للقوانين وتتوفر فيها  سلطة قضائية مستقلة وظيفتها إقرار العدل الذي  يُشعر المواطن بالطمأنينة فيستقر ويخلق ويبدع، وقد أخرجت  الثورة تونس من دولة الحزب الواحد والزعيم الأوحد وقلبت البناء الهرمي للمجتمع، فبعد أن كان منتصبا على قمته صار مرتكزا على قاعدته الشعبية وعلى ما تفرزه القاعدة من منظمات وتنظيمات وهيئات، وهي أعمدة الخيمة الديمقراطية التي لا تقوم بدونها وأوتادها التي تثبتّها على الأرض.

نعم إن الديمقراطية المباشرة  هي الأصدق في التعبير عن إرادة المواطن في الانتخابات، لكن من يقوم بدور التثقيف والتنظيم والتعبئة والدفاع عن المصالح القطاعية غير الأجسام الوسيطة التي تخوض صراعات مصلحية ضرورية لكنها بطريقة مدنية ناعمة.

VI ــ تحيين رسالة الاتحاد في هذه المحطة المفصلية

وأخيرا في تقديري إن الاتحاد ــ كمنظمة جماهيرية وطنية  فاعلة  ووازنة  يستند إلى قوة الحجة لا إلى حجة  القوة ،هو الرافعة الوحيدة  القادرة  على تغيير موازين القوى وهو في هذه المحطة محل تجاذب بين ثلاث فعاليات سياسية تراهن على حضورها في المحطة الانتخابية القادمة وهي:

 أولا ــ معسكر الإسلام السياسي والثورة المضادة ومحوره النهضة التي ترغب في مقاطعة المجتمع المدني وأساسا الاتحاد حمامته المطوقة التي تقود السرب فبالمقاطعة ستدعم  ما تُسوّق إليه محليا ودوليا عن عزلة قيس سعيد.

ثانيا ــ معسكر الحزب الدستوري الذي يعتبر نفسه البديل المستقبلي استنادا لعمليات سبر الآراء التي تعطيه الأسبقية في الفوز ويعمل على إفشال عملية الاستفتاء لأنه نجاحه سيشكل خطرين على هذا الحزب:

1ـ سيكون الانتخاب على الأفراد وليس على القائمات ولن يكون له حضور كبير

2 ــ تحوّل النظام من برلماني إلى رئاسي حيث لا تستطيع مجابهة قيس سعيد الذي مازال يتمتع بنسبة من الأصوات لا تقل عن 70  %ولم تستطع   أن تتجاوز 5 % فمن مصلحة هذا الحزب ألا يتغير القانون الانتخابي ولا النظام البرلماني.

ثالثا ــ يسعى أنصار حركة التصحيح لاستدراج الاتحاد ـ بما له من ثقل جماهيري وسياسي ــ إلى مربع أنصار الرئيس

وأمام هذه الخيارات الثلاثة لا أرى من سبيل غير  تعميق الحوار مع رئيس الدولة وتجاوز بعض التحفظات  حول الحوار الشكلي ومخرجاته  الجاهزة،فعليه أن يُحيّن رسالته انطلاقا  من استشراف مستقبل تونس  ماذا ينتظرها مع الثورة المضادة والإسلام السياسي أو مع الحزب الدستوري السلالة المتحورة عن منظومة الاستبداد والفساد والمظلات  الواقية لهما .

 إن رزنامة  رئيس الدولة: الاستشارة والاستفتاء والانتخابات ـ بكل سلبياتها ــ لا تشكّل أي خطر على الدولة التونسية راهنا ومستقبلا، كما أن قيس سعيد لا يمكن أن يكون دكتاتورا حتى ولو أراد، فالدكتاتورية ليست منزعا شخصيا بل هي ــ أساسا ــ إفراز لطبقة رأسمالية توسعية يدعمها حزب أو نظام استبدادي وهذا ما لا يحظى به قيس سعيد.

  أمام الوطنيين فرصة تاريخية لإنقاذ بلادهم وإيقاف نزيف الفساد والعمل على ترسيخ سيادتها اقتصاديا وسياسيا  ضمن  محيطها الجغرافي والتاريخي بعيدا عن  الحلول المعولمة المعولبة الجاهزة.هذا ما لا تعيه ولا تنجزه غير المنظمة  الشغيلة.

        سالم الحداد زرمدين/ المنستير الإثنين 16ماي 2022