وثائقي

تفاصيل جديدة في مرافعة ممثل النيابة العمومية أثناء محاكمة قيدادة الاتحاد سنة 1978

في جزء جديد من مرافعته، يأتي ممثل النيابة العمومية في هيئة محكمة أمن الدولة المنتصبة للنظر في قضية قيادة الاتحاد سنة 1978، على تفاصيل من العلاقات التي سادت طيلة نلك العشرية وما شهدته من انجازات حسب رأيه.

قال " لنتذكر ما كانت عليه البلاد سنة 1970 عندما جعل حد للسياسة الاقتصادية التي كانت متبعة في الستينات.
لقد اعترف الجيمع انذاك حقير القوم وكبيرهُ ورجال الاقتصاد والسياسة اصدقاء او ملاحظين وحتى بعض المتهمين ذاتهم انها كانت على قاب قوسين من الانهيار اجتماعيا واقتصاديا، ولست في حاجة لمدكم بتفاصيل في هذا الصدد فحتى الماثلون امامكم يعلمونه كل العلم ومنذ عام 1970 حرصت الحكومة على تحقيق العمل الانمائي بكل تبصر وعلى بينة مما قد يحدث من توترات عادية يولدها حتما التحول الاجتماعي العميق  الذي ستجتازه الامة وفضلت التصدي لها متمسكة بالمثل الانسانية وسعت دوما في السيطرة عل الامور بالطرق الشريعة وفي الحفاظ على كرامة التونسي مقتنعة بالمصاعب العديدة والمتنوعة التي تواكب على عمل يرمي الى تحقيق الانماء على اسس الاستمرار والدوام  والتوقي من القطيعة بين الاجيال ورأت عن حق ان في تجميع القوى وضم الجهود والسيطرة بمهارة على المطامح المتزايدة والمشروعة في غالب الاحيان ضرورة تتعين الاستجابة اليها في نطاق خطة محكمة، كما رأت عن حق ان ذلك يستدعي وفاء مطلقا للوحدة القومية دون اضعاف للدولة او الحد من نشاطها باسم اتجاه تحريري كثير ما يساء فهمه ويؤدي الى عرقلة العمل الانمائي والى النيل من اللحمة القومية وخضنا جميعا معركة القضاء على التخلف ارتكازا بالخصوص على تعزيز الوحدة بتثبيت روابطها اقتصاديا واجتماعيا واخترنا نموذجا من التنمية لا يقول بحرب الطبقات ولا مكان فيه لنزاعات التقهقر والجمود والتعصب واكدنا ان نظامنا الاجتماعي لا يمكن ان يقوم على التخاصم والتناحر متوخين الحرية الاجتماعية والسياسية التي شهدها التاريخ المعاصر فاذا ببعضهم يدفعه الغرور ليستغل منظمة غذتها الحكومة بالمدد والسند حتى ارتفع شأنها غايتهم تحقيق مطامع سياسية وفرض دكتاتورية طبقية وجحدوا مجهود الامة في اقرار مجتمع معدل واستضعفوا الحكومة وشاغبوها واخذوا من صبرها ومن تمسكها بالمثل الانسانية زادا جديدا لتنفيذ خطتهم الجهنمية تحت ستار السعي من اجل تحقيق المكاسب الاجتماعية التي كانت تقصدها الحكومة بعد واعدت لها ما بامكانها ان تعده ـ وهم على بينة من ذلك ـ ووقع الشروع في تنفيذها فعلا قابلوا كل ذلك بالعداء وانتقلوا الى مرحلة الانجاز فشنوا الاضرابات غير الشرعية التي تخللت سنة 1976 ثم جاء هجوم خريف 1977 ووقع التهديد بالاضراب العام والتحرش بواسطة المقالات الصحافية واستغلوا ما حدث بقصر هلال وهو حصاد زرعهم واتخذوا عملية توعد بسهرة خمرية تمت في أحد النزل يرجع النظر فيها الى محاكم الحق العام التي بتت فيها فعلا واصدرت العقاب الزاجر على مرتكبها ذريعة لشن حملة من الاضرابات في سائر مناطق البلاد اكتست صبغة التهريشات الدورية الشاملة تندلع هنا وهناك  مما ادخل اختلالا على النظام العام وعرض امن ومكاسب الاشخاص للخطر ثم ساروا في طريق الانجاز بخطى مضبوطة واساليب محكمة من تطاول على الدولة واعلان عن التمرد والعصيان وتزكية كل اعمال الفوضى والتخريب وحتى التصريح على لسان جريدة البشعب بانها احداث وجيهة ـ ولست اعلم اي حكومة في العالم اتخذوها مثالا لنظريتهم في ارساء الامن والرقي ترتكز على مثل تلك الاعمال ـ وطعنوا عملا انمائيا جماعيا شاركوا فيه وبرروا مسعاهم الجنائي باسباب اقتصادية واجتماعية في حين ان ذلك من باب الزيغ عن الحقيقة.

السياسة التعاقدية ذات الابعاد الاقتصادية والاجتماعية
وفعلا فليس للاحداث التي عاشتها البلاد في النصف الثاني من سنة 1977 ولا لاضطرابات ايام جانفي الثلاثة وخاصة يوم 26 منه ما يبررها من اسباب اقتصادية واجتماعية وكيف يمكن ادعاء عكس ذلك والحال ان السياسة الاقتصادية والاجتماعية المتبعة منذ مطلع السبعينيات لم تخترها الحكومة بمعزل عن الاتحاد العام التونسي للشغل ولا حددت مبادئها واهدافها ومناهج تطبيقها بعيدا عن قادته بل انه لم يشهد تاريخ تونس المستقلة حكومة اشركتهم في وضع سياستها وضبط اختياراتها واسهمتهم في طرق تنفيذها ومراحلها مثلما فعلت هذه الحكومة التي لم تلق منهم في النهاية الا المناورات والعداء والنيل من امن الدولة وسلامتها للاطاحة بالحكومة واخذ مكانها.
فلقد اختار الاتحاد والحكومة السياسة التعاقدية التي لها ابعاد سياسية واقتصادية واجتماعية لانها تعتمد التشاور والحوار مع الاطراف الاجتماعية وتعترف لكل واحد بحق التعبير عن مطامح منظوريه والقدرة على الالتزام باسمهم، وبهذا لم ينظر إلى  المنظمات القومية على انها مجرد مجموعات مهنية بل عوملت على انها اطراف مسؤولة تقول كلمتها في مختلف اوجه السياسة الاقتصادية والاجتماعية ولها ابعاد اقتصادية لانها تقوم على ابرام عقدة تنمية فهي في الان نفسه عقدة انتاج وعقدة توزيع فكما انها تعتبران التنمية والانتاج لا تكتب لهما الاستمرار ما لم يدعما بسياسة مداخيل فانها تعتبر ان سياسة المداخيل لن تكون ناجعة ما لم يتخذ المتعاقدون الاجتماعيون وخاصة اصحاب الاستثمارات والشغالون من التنمية هدفا اساسيا لهم ولها ابعاد اجتماعية لانها تقتضي توزيعا عادلا لثمار التنمية وترفض الاستغلال وتضمن للشغالين حقوقهم وتستند الى قوانين ومناهج عمل وتشاور تمكنهم من تدعيمها والمحافظة عليها.
هذا هو جوهر السياسة التعاقدية المتبعة في تونس ولقد تجلت بصفة جلية منذ عدة سنوات وعملت الحكومة على ضبط حدودها وتحديد مراحلها واستنباط طرق تنفيذها بالاتفاق دوما مع الاطراف الاجتماعية وفي طليعتهم الاتحاد العام التونسي للشغل ولقد برزت منذ ابرام العقد الاطاري إصدار سنة 1973 في  39 عقدا قطاعيا مشتركا تهم عددا عديدا من مؤسسات القطاع الخاص وفي اصدار سبعين نصا لضبط القوانين الاساسية للمؤسسات العمومية.
ولم تصدر هذه العقود ولا القوانين الاساسية بمجرد امر من الحكومة فلم ينشر نص من النصوص الا بعد نقاش طويل ومشاركة كل الاطراف المعنية ووجد ممثلو العمال مجالا واسعا للدفاع عن ارائهم في حرية تامة والعمل على تحقيق مطالب الاتحاد.

عقد اجتماعي يأتي بعد تشاور دام عدة اسابيع
وبعد ذلك كان العقد الاجتماعي الذي ابرم يوم 19 جانفي 1977 بعد تشاور استغرق اسابيع ووجد المتهمون من قيادة الاتحاد السابقة مجالا لابداء ارائهم والدفاع عن طلبات منظوريهم، والفوز بحلها، وقد شهد شاهد من اهلها على مدى ما لقيته هذه القيادة من حسن استعداد ومجال للحوار والاقناع والاقتناع، فقد اعترفت بذلك جريدة الشعب التي ما كانت لتكن عطفا خاصا للحكومة والتي يسيرها المتهم الحبيب عاشور ويراجع قبل النشر ما يحرره اعضاده ويتولى ادارة تحريرها المتهم حسن حمودية فقالت قبل ان تقلب ظهر المجن:
من الممكن ان يفرض الى حد ما محتوى مثل هذا الميثاق بالحديد والنار في بلد ينكر تعدد الاراء ولكن ذلك الحل السهل وخيم العاقبة، بما يولده الاختناق حتما من انفجارات توالت الادلة عليها من جهات عديدة من العالم وقد رغبت تونس عن ذلك واختارت الحل الصعب عن روية، فمن العسير التوصل الى نفس الميثاق في مناخ لا يتميز بالتحاور بين اطراف اجتماعية مسؤولة حريصة كل الحرص على صيانة مصالح اعضائها.
ولذلك فان الميثاق الاجتماعي القومي الذي التقت حوله اراء جميع الاطراف الاجتماعية يوم 19 جانفي 1977 لم يتحقق بين عشية وضحاها في طفرة حماس زائلة».
هل مازلنا في حاجة الى دليل اخر على مشاركة قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل في ضبط سياسة البلاد وعلى التزامها بهذه السياسة وتحمل مسؤولياتها مع بقية الاطراف الاجتماعية؟ ان كنتم في حاجة الى ذلك فاستمعوا الى صاحب المقال المذكور يواصل كلامه قائلا:
«فقد جاء ميثاق 19 جانفي 1977 ميثاقا اجتماعيا واقتصاديا قوميا فهو قومي من حيث انه ملزم لجميع الاطراف الاجتماعية والحكومة على السواء وهو قومي من حيث انه لا يرمي الى تحقيق اهداف هذه الفئة وضمان مصالحها على حساب اهداف اخرى او مصالحها..»
وهاهو الحبيب عاشور نفسه ينوه مرارا عديدة حيثما تنقل في انحاء الجمهورية بهذا العقد وبالسياسة التعاقدية بصفة اعم وبما جناه الشغالون منها فقال في خطاب القاه في سيدي بوزيد يوم 22 جانفي 1977:
«ان الحالة المادية والادبية للشغالين تحسنت بصفة جد محسوسة خلال السنوات الثمانية المنقضية... ان الترفيع في الاجر الادنى المضمون لمختلف المهن والاجر الادنى الفلاحي بنسبة 33% يشكل زيادة لا مثيل لها في بلدان العالم الثالث كما تدل على ذلك مختلف شهادات ممثلي النقابات الامريكية والالمانية، وان الحكومة قد ربطت دوما اهدافها في الرقي بتحسين ظروف عيش الشغالين وعملهم».
وقال في خطاب القاه بباجة يوم 22 فيفري من نفس السنة ان تونس قطعت بفضل حكومة السيد الهادي نويرة مراحل ذات شأن في طريق التنمية والرقي وان الميثاق الاجتماعي مثال يحتذى بالنسبة الى كل بلدان العالم الثالث.
وهذه التصريحات الملأى بعبارات الثناء والتنويه على سياسة الحكومة والعقد الاجتماعي يرددها ايضا الملاحظون الاجانب من امثال الكاتب العام للجامعة الدولية للنقابات الحرة والسيد ارفينغ براون النقابي الامريكي المعروف فقد قال كريستن: «اني اهنئ الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل على ما بذلاه من مساع لابرام الميثاق الاجتماعي وان ارتفاع اضعف الاجور بنسبة 33% يعتبر امرا هاما... وساحرص في بروكسيل على نشر ما حققتموه حتى يكون مثالا يحتذى»
وقال الثاني: «بالامس اعطيتم للتضامن بين الحكومة والمؤجرين والعمال معناه الحقيقي بالامس ابرمتم ميثاقا اقتصاديا ولا يمكن ان يوجد ميثاق اجتماعي دون اقتصاد متين لان الترابط بين ماهو اجتماعي يمثل امرا سياسيا واني اهنئكم بالمكاسب التي حققتموها فهي مثال رائع لا لافريقيا فحسب بل لكل بلدان العالم ايضا».

(يتبع)