آراء حرة

مصير مسار 25 جويلية والبلاد بيد سعيّد بين التنازل والالتقاء على المشترك الوطني ومواصلة المرور بالقوة وفرض سياسة الأمر الواقع

* خليفة شوشان

 

تؤكد تجارب التاريخ السياسي المعاصر أن أكثر الزعماء السياسيين إرباكا وإرهاقا في التعامل معهم أولئك الذين تتوفر فيهم للمفارقة صفات الوطنيّة حدّ التصوّف والصدق حدّ التهوّر والطهورية حد إنكار الذات مع فائض من العناد والمكابرة واعتقاد امتلاك الحقيقة والثقة في النفس إلى درجة رفض قبول النصيحة. يجد الدارس لممارستهم السياسية والمتعاطي مع أدائهم نفسه في حيرة من أمره، فلا هو يستطيع الحسم معهم نهائيا ومناصبتهم العداء لأن المشتركات معهم والأهداف التي تجمعك بهم تكاد تكون واحدة وان تنوعت عناوينها وأساليبها وأدواتها، ولا السكوت على ممارساتهم فيعتقدون ذلك موافقة أو مبايعة أو خوفا فيتمادون ويؤذون أنفسهم ويؤذون من حولهم ويشوهون الأهداف المشتركة ولا أنت تستطيع التقاطع مع أعدائهم وخصومهم لأنهم نفس خصومك وأعدائك يترصدون الفرصة للانقضاض على الجميع.

 

هل استنفد سعيد صبر مساندي المسار؟

 

رئيس الجمهورية قيس سعيد قيس سعيّد مثال سياسيّ لهذا النموذج السياسي، مرهق ومستفز التعامل معه وفهم سياساته وتتكثف هذه المفارقة وهو يحتل منذ عشرة أشهر موقعا في البلاد يجعله يمتلك كل أوراق اللعبة السياسية وبيده مصير ومستقبل البلاد والعباد على الأقل ظاهريا. مدة كافية جعلته يستنفد من كل الداعمين لمسار 25 جويلية أحزابا ومنظمات وشخصيات وطنية كلّ رصيدهم من «الصبر الاستراتيجي» والتماس الأعذار له بصعوبة الأزمة الشاملة التي تمرّ بها البلاد وتعقيداتها وتشعباتها وصعوبة الرهانات المستقبلية في لحظة مفصلية غير مسبوقة تمر بها البلاد زادها الوضع الاقتصادي والاجتماعي تعمقا.

بين الحسم النهائي في سياساته ومناصبته العداء والصمت على خياراته التي أكدت التجربة أنها على قدر من التهافت والارتجال تفرض المسؤولية الوطنية واللحظة التاريخية على القوى الوطنية المؤمن بمسار التغيير الضروري والقطع مع منظومات الفشل والمختلفة معه في البديل الواقعي للخروج من هذه الأزمة والآليات والأدوات والأساليب المناسبة لذلك شق طريق ثالث لا هو بالمتعارض معه ولا هو بالمتماهي حد التطابق، يقوم على التقاطع في المشتركات والبناء عليها والضغط الايجابي في نقاط الاختلاف لإقناعه أو إجباره على التنازل عن بعض الأوراق السياسية للقوى الوطنية الديمقراطية الاجتماعيّة منظمات وأحزابا. حتى لا يضطره العناد وسوء إدارة المسار إلى خسارة كلّ الأوراق وتضييع فرصة تصحيح المسار التي قد لا تتكرر على البلاد.

 

سعيد بين الطهورية الفكرية وإكراهات الممارسة

 

لعل المتابع الموضوعي للأداء السياسي للرئيس قيس سعيد منذ إعلان إجراءات 25 جويلية سيكتشف دون مجهود تحليلي كبير أن أكبر أخطائه تمترسه في رؤية تبشيرية حالمة وانفصاله عن الواقع بقطع النظر عن صدقه وإيمانه بالفكرة التي يحملها، وجوهر هذه الممارسة المثالية للسياسة اعتقاده الجازم حد اليقين الإيماني أنّه قادر على حلّ كل التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة والمركبة وارتباطاتها الاقليمية والدولية بالنصوص القانونية مناشير وأوامر ودساتير وهو خطأ يبدو أنه من الصعب أن يتجازوه لأنه جزء من عقيثدته السياسية ونظرته الطهورية للواقع.

 

انفصام حاد بين قرطاج والقصبة

 

هذا الخطأ الفكري الأصلي المسكون بجرثومة المثالية السياسية تناسلت عنه جملة من الأخطاء في الممارسة السياسية على أرض الواقع وانفصال حدي عميق انكشف تدريجيا بين التصور النظري والممارسة الواقعية والذي يمكن تجسيده في حالة القطيعة الحاصلة بين الرأس التشريعي في قرطاج والجسد التنفيذي في القصبة بين تصريحات رئيس الجمهورية في عديد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبين التنزيل الحكومي لها برامج ومخططات والأمثلة على ذلك كثيرة، تصور رئاسي لدور الدولة وبرنامجها الاقتصادي وتنصيص على أن يكون اجتماعيا أساسا لصالح الفئات والطبقات الضعيفة والمسحوقة وميزانية دولة حكومية مغرقة في الليبرالية وممعنة في تحميل هذه الفئات كل تبعات وتكلفة الأزمة الاقتصادية، رفض رئاسي ضمني للتعامل مع الصناديق المانحة الدولية ومؤسسات الترقيم السيادي وسعي حكومي إلى فتح مفاوضات معها وتطبيق إملاءاتها حرفيا دون مراعاة ارتداداتها الاجتماعية. وأخيرا حتى لا أطيل موقف رئاسي قاطع برفض التطبيع واعتباره خيانة وهرولة حكومية غبية أو انتهازية لاستثمار «زيارة الغريبة» واتخاذها جسرا للتطبيع.

 

استشارة فاشلة رغم الإنكار

 

أما على مستوى الإدارة السياسية فقد تولدت جملة من الأخطاء يمكن الاكتفاء على سبيل الحصر بثلاثة:

الخطأ الأول تنظيمه استشارة وطنية ابتدأت شبابية وتوسعت لتكون شعبية لم يكن مطالبا بها ولا أحد أجبره على القيام بها الا إيمانه العقائدي بضرورة تشريك الشعب في اقتراح حلول لمشاكله، بل لعلّ «الشعب» -إن جاز التعميم- منحه كلّ الثقة ليقدم الحلول الملموسة لمشاكله. ليجد نفسه في النهاية أمام استشارة فاشلة عمليا بالنظر الى حجم ونسب المشاركين فيها. وهذا الفشل للتوضيح لا يعود الى موقف شعبي من الرئيس أو من استشارته كما يروج معارضي مسار 25 جويلية، لأن نسب الرضا على الرئيس بقيت في أعلى مستوياتها وبفارق لا يقارن مع خصومه، بل الى أن غالبية الشعب لم يفهمها ولم يعِ أهميتها في تغيير واقعه اليومي الى جانب عزوفه الماقبلي عن كل المحطات السياسية (انتخابية او استشارية وربما الاستفتاء لاحقا) لأسباب يطول شرحها لعل أهمها انعدام ثقته في السياسية والسياسيين، لكن للأسف استغل خصوم سعيد نتائج الاستشارة للتشكيك في مشروعيته الشعبيّة وبذلك يكون قد منحهم هدية مجانية كان بإمكانه تفاديها.

 

هيئة مسقطة

 

الخطأ الثاني يتعلق بإحداث «بالهيئة الوطنية الاستشارية» بوابة الاستفتاء القادم الذي يؤمن به سعيد إيمانا عقائديا وفكريا بأنه أرقى الأشكال التمثيلية لارادة الشعب ويعوّل عليه باعتباره ورقته الرابحة لتحقيق مشروعه السياسي. هيئة أعلن عن لجانها وتركيبتها ومهامها والمشاركين فيها دون الرجوع إليهم أو استشارتهم أو تشريكهم لينتهي به الأمر محشورا في الزاوية ومحرجا أمام الشروط والضمانات التي طلبتها المنظمات الوطنية للمشاركة وأمام اعتذار/رفض عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية المشاركة فيها بتعلة هي كلمة حق أريد بها باطل «تمسكهم بحياد المؤسسات الجامعية وضرورة النأي بها عن الشأن السياسي»، التعلة المردودة عليهم لأنهم وفي أغلب وجوههم الممضية لم يلتزموا بهذا الحياد ولم يبخلوا بتقديم الاستشارات والنصائح والوصفات الدستورية للحاكمين والأحزاب السياسية سواء زمن بن علي أو خلال عشرية الفشل ولم يتمسكوا يوما بما يدعونه «بالقيم والحريات الأكاديمية المعمول بها والمتفق عليها حتى لا ينجروا إلى اتخاذ مواقف من برامج سياسية لا تتصل بمسؤولياتهم الأكاديمية والعلمية والبحثية والتأطيرية».

 

الفرصة الأخيرة للتدارك

 

أما الخطأ الثالث الذي سيكون قاتلا وأتمنى ألا يقع فيه قيس سعيد فيفوت فرصة الإصلاح التي قد تكون الأخيرة على البلاد والعباد فهو إذا ما أصرّ على اعتماد سياسة المرور بالقوة وفرض الأمر الواقع وإعلان القطيعة مع كل الأحزاب والمنظمات الوطنية المساندة لمسار 25 جويلية، وعزل نفسه نهائيا أمام مشهد سياسي داخلي في معظمه يناصبه العداء ويعتبره خطرا استراتيجيا على مصالحه وامتيازاته المادية والرمزية التي راكمها طوال العشرية، وفي ظل محيط اقليمي ودولي لا ينظر بعين الرضا إلى مواقفه وسياساته. والأخطر من كلّ ذلك أن هذه العزلة تأتي في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية بلغت أقصى درجات تدهورها وأزمة مالية خانقة مرتهنة برضا المانحين الدوليين وتطبيق حزمة من الاصلاحات الموجعة ويستغلون هذا الملف لابتزازه سياسيا وتحسين شروط تفاوض أعوانه في الداخل من منظمات وأحزاب وهو ما قد يفجر أزمة اجتماعية ستكون ٱثارها غير مسبوقة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة ولن يستطيع الشعب «خزّان ثقة سعيّد» تحملها تبعاتها أكثر.