وثائقي

ممثل النيابة العمومية يصر على ان النقابيين اعتزموا الاعتداء على أمن الدولة والاطاحة بها وقلب النظام وتقويض المجتمع

واصل ممثل النيابة العمومية في مرافعته أمام محكمة الدولة اتهام قيادة الاتحاد باصرار شديد قائلا ان ما قاموا به من أعمال ليكفي ليثبت اثباتا قاطعًا انّهم قد اعتزموا الاعتداء على أمنها والاطاحة بها وقلب النظام وتقويض المجتمع، واصرّوا على ذلك وعملوا من أجله وكادوا أن يفلحوا في خططهم البارعة الفتّاكة.

" القضية حضرت"
ولا أدل على ذلك ممّا أعد ماديا من وسائل هجومية تتمثّل في الكرات الحديدية الموضوعة أمامكم والتي صنعت بطلب من المتهم الحبيب عاشور وحجز انموذجها بدار الاتحاد بتونس ذلك الانموذج الذي اخبره اسماعيل السحباني باعداده بمحضر الشاهدين خيرالدين الصالحي والتيجاني عبيد ولقد أوضح ثاني الشاهدين انّه بينما كان خلال شهر جانفي 1978 وفي يوم لا يضبطه مع أحد أعضاء المكتب التنفيذي رفقة الحبيب عاشور اذ دخل عليهم اسماعيل السحباني وأفاد الحبيب عاشور بأنّ «القضية حضرت» فثار في وجه لائما عليه تحدثه بكل شيء بمحضر كلّ الناس الى جانب المخابرتين الهاتفيتين مع السيد عبد العزيز طبقة ومع ناجي الرمادي فقد أكّد الأول ان الحبيب عاشور كلّفه بابلاغ السيد مدير الأمن الوطني بأنّه اذا لم يسمح للنقابيين بالخروج من مقر الاتحاد؟ في ظرف نصف ساعة يقع «احراق البلاد وكل نهبطها» هذا وان ما تمسك به المتهم من ان طلبه فك الحراسة على دار الاتحاد مردّه الحرص على صحة خيرالدين الصالحي الذي يشكو مرضا يستوجب الخروج من المحل الملمع اليه تفنده شهادة الشاهد المتعرّض إليه وتصريحات الطيب البكوش اللذين ينفيان ذلك القول بالاضافة الى تصريحات عبد الرزاق ايوب الذي كان حاضرا بالموطن ذاته.

" الدنيا دخلت بعضها"
كما حقّق الناجي الرمادي ان الحبيب عاشور كلّفه بواسطة الهاتف بابلاغ الحبيب بن عاشور الكاتب العام للاتحاد الجهوي بسوسة بدعوة الاطارات والعمّال بالجهة للتجمهر والتحول الى وسط المدينة للتعرض للحافلات ـ وتهشيمها واعلامه بأنّ «الدنيا دخلت بعضها في جميع الولايات والاضراب ماشي والجو بريمة» وبالفعل فقد انطلقت اعمال الاضطرابات والتخريب والنهب بتونس العاصمة بعد نصف الساعة بالضبط الذي حدّده لمخاطبه بادارة الأمن الوطني وأيضا في سوسة في نفس الوقت وعقب المكالمة الهاتفية مع الناجي الرمادي وهكذا تمّ تنفيذ تهديده وتوعده واشتعلت النار مثلما اشتعلت بقرطاج في عصر الرومان وعمّت الفوضى واستبيحت الأرواح والمكاسب.
وهكذا يتضّح انّ العنف اللفظي الوارد في تصريحات المتهمين ونشرت بعضه جريدة «الشعب» لسان الاتحاد العام التونسي للشغل قد عقبه عنف مادي ظهر بصفة جلية يوم 26 جانفي 1978 وكان الحلقة الأخيرة من مخططهم الاجرامي الهادف الى النيل من امن الدولة العام ومن امنها الاقتصادي وفعلا فإنّ تنظيم المجتمعات الحديثة وترابط مصالح المواطنين فيها قد بلغ درجة من الدقة والتشعب تجعل لكل عمل فوضوي ولو كان نسبيا ومحدودا ولكل اضطراب ولو كان ضيق النطاق، ولكل تعطيل في الانتاج وانخفاض في الانتاجية ولو لمدّة قصيرة الأثر السيء والأخطار البعيدة على سلامة المجتمع ومناعة البلاد، فقد أصبح امن الأمة الاقتصادي وبالتالي توازنها الاجتماعي والسياسي عرضة لهذه الأخطار مقتلاً يمكّن الحركات الفوضوية ان تصيب منه اصابة قد تكون قاضية، لذلك عمدت هذه الحركات التي ترمي الى قلب الأنظمة وتقويض المجتمع الى الاضرار باقتصاد البلاد وارهاقه مستهدفة من وراء ذلك تعجيز الدولة بوصفها المسؤولة على الأمن الاقتصادي بقدر ماهي مسؤولة على الأمن الاجتماعي وسلامة المواطنين بوجه عام.
لقد قيل انّ القضية سياسية نعم انّها قضية لها وجهها السياسي لأنّ الأعمال التي قام بها المتهمون والتي هي محل نظركم اليوم تمثّل اعتداء على أمن الدولة ومعلوم انّ الاعتداءات المرتكبة ضدّ أمن الدولة الداخلي تدخل في نطاق الجرائم السياسية حسبما ورد (بمجموعة دلوز الجنائي المجلد الأول الصفحة 188). هذا من جهة ولأنّ القضية ذات خلفيات سياسية واضحة من جهة أخرى ولابد ان يكون من البين ان ما يهمنا اليوم ليس ما يعتنقه المتهمون من مذاهب وآراء بقدر ما تهمنا الأعمال الاجرامية التي ارتكبوها لتحقيق اغراضهم، كما أنّه لابد أن يكون واضحًا أنّ العمل السياسي لم يكن قط في هذه الدولة محل مؤاخذة وادانة، لكن الذي لا يسمح به هو اتخاذه مطية للاجرام والاخلال بالأمن على أتمّ معناه.
كما أنّه لابد أن يكون واضحًا آنّ حرية الرأي والمعتقد ما كانت قط في هذه الدولة محل مؤاخذة ولكن هذه الحريات في نظامنا وفي غيره من الأنظمة وفي غيره من الأنظمة في الدولة المتمدنة تمارس في نطاق القانون.

ادعوا ان لا علاقة لهم بالاحداث   

اني اعتقد انكم لن تقبلوا المنطق الذي يزعم ان المتهمين الماثلين امامكم انما يحاسبون اليوم من اجل مجرد افكارهم السياسية او ان الاتحاد العام التونسي للشغل يحاكم في شخصهم فقد ادعوا ان لا علاقة لهم بالاحداث ونسيوا كل ما حدث من اعمال الى العاطلين تارة والمتسكعين تارة اخرى ولم يترددوا في ان ينسبوا تلك الاعمال الى نفسها مرة والى ما اختلقوه تحت اسم ميليشيا الحزب مرة ثالثة وكان كل التونسيين مدانين في هذه القضية الاهم.

افليس من باب التمويه على الحقيقة ان يدعي مدع ان ما شهدته البلاد من احداث جسام انما هو من جراء كمشة من المتسكعين العاطلين وفعلا ألم يكن ما بين اقوال المتهمين والاعمال من صلة ومن ربط الاسباب بالمسببات ما لا يترك مجالا للشك في اسنادها اليهم ولكم ان تتساءلوا معي اسئلة يكون الجواب عنها بديهيا لدحض مزاعمهم.

فلماذا لا يتحرك هؤلاء المتسكعون والعاطلون الا في ايام معينة ومواعيد هي التي ضبطها المتهمون تسترا بالاتحاد ثم لماذا لم يستنكر احد منهم بوصفه المتستر به هذه التصرفات ولم يدينوها؟ انهم بالعكس من ذلك وجهوا اتهاماتهم الى الحكومة التي سعت الى تلافي الاحداث ومعالجتها وحاولوا الايهام بأنها تسعى للنيل من قوة المنظمة واستقلالها.

ان بعض الارقام وبعض الاحصائيات من حيث سن المورطين في احداث 26 جانفي وما قبله من احداث كانت مطية لها وضبطوا في حالة تلبس لتكفي لكشف القناع عن هذه الاسطورة، ان هؤلاء لا ينتمون الى العاطلين او المتسكعين او المنقطعين عن التعليم فـ 65% منهم يتجاوز سنه الثامنة عشر و 94% منهم له شغل قار وحينئذ لا يتجاوز عدد من ليس لهم عمل بذكرهم الا القليل والقليل جدا لا يتجاوز نسبة الستة بالمائة انهم في معظمهم اصحاب مهن وموارد ميسورة بل منهم من الموظفين ورجال التعليم والطلبة.

ان الادعاءات التي وجهها المتهمون الى الحكومة لا تثبت امام الواقع ولا تستند الى اية حجة موضوعية، فكيف تسعى الحكومة الى اضعاف منظمة عاملتها معاملة طرف اجتماعي مسؤول وما انفكت توفر لها الظروف حتى تقوى صفوفها ويتسع مجال عملها وهي في حاجة لذلك لاستتباب السلم الاجتماعية بتوعية الجماهير الشغيلة وتحقيق الانتاج والانتاجية في كنف الوئام بين الجميع؟ فلو كان الامر كما يدعون لما افسح لها المجال لتحقق مطالب منظوريها ولما استجيب الى طلباتها ولما دعيت للاضطلاع بدورها كطرف اساسي له وزنه في سياسة البلاد اقتصاديا واجتماعيا وان ابسط الناس ليدرك ان الحكومة التي اختارت سياسة تقوم على تشاور الاطراف الاجتماعية لا يمكن ان تسعى الى القضاء على هذه الاطراف والحط من شأنها.

 

تصريح واضح ناصع لا شك فيه

وهذا المتهم الحبيب عاشور الكاتب العام السابق للاتحاد يكفينا مؤونة البرهان في تصريح واضح ناصع لا يترك مجالا للشك في حرص الحكومة على احترام الاتحاد وتدعيمه والذود عن استقلاله اذ يقول في خطابه الملقى بمدنين يوم 8 مارس 1977 ان الاتحاد العام التونسي للشغل لم يبلغ قط في الماضي ما بلغه من القوة والاستقلال منذ تعيين السيد الهادي نويرة على رأس الحكومة.

ولنذكر بما اظهرته الحكومة من صبر واناة ونداء للتبصر والرؤية وما بذلته من تسامح وما لبته من مطالب الى اخر ساعة قبل الاضراب العام وتجنبها للقطيعة وحرصا على وحدة الامة وعلى منظمة هي من اغلى مكاسب الامة والنظام.

وتهمة ثانية تمسك بها الحبيب عاشور وجماعته وهي تهمة «الميليشيا» والعصابات المسلحة وقد سبق ان صرح الحبيب عاشور بمثل هذه التصريحات فطلب منه الادلاء بما لديه من معلومات في هذا الصدد فلم يقدم منها شيئا وكلف وزير الداخلية السابق بالقيام ببحث واعلن ان لا وجود لهذه الميليشيا ومن غريب الامور اتفاق تصريحه مع تصريح محمد المصمودي في الخارج بأنه يعلم ان بعض الاطراف المعروفة بتونس تتسلح كأنها تستعد لعهد ما بعد بورقيبة.

وفي تصريح اخر ادعى الحبيب عاشور ان مائتي اطار من الاتحاد كانوا مهددين بالقتل فتعهد القضاء بالموضوع وطلب منه قاضي التحقيق ان يمده بما لديه من معلومات عمن هم مهددون حتى يقوم بالتحقيق في الامر فامتنع دون ان يدلي بعذر او سبب.

والحقيقة ان هذه التهم ليست الا عينة من الطرق المتوخاة من طرف المتهمين من قيادة الاتحاد السابقة للمغالطة وتضليل الناس بهذه الطرق تقوم على ركنين اساسيين:

الاستفزاز وتلفيق التهم، فمن التهم العظمى التي كانت ترفع كما رفعت المصاحف يوم التحكيم وتوجه للحكومة باعتبارها منبثقة من الحزب الاشتراكي الدستوري صباحا مساء النية المنسوبة اليه للنيل من استقلال المنظمة والاستحواذ عليها، كما ان من الادعاءات المغرضة ان المقصود بالمحاكمة هو الاتحاد العام التونسي للشغل! ليس في استطاعة احد ان يقبل هذا الادعاء او تلك التهم، اني انزه المنظمة الشغيلة ـ وذلك هو الحق ـ عن نية النيل من سلامة الدولة واحرى القيام بأعمال هدامة وزرع بذور العنف والتطاحن والبغضاء اذ في ذلك تنكر لسياسته ومبادئه التي ركزها فرحات حشاد وكل النقابيين الذين ساهموا في عمله التحريري وفي سياسته الانسانية وحبه للوطن ومقاومته كل بوادر الفوضى والارهاب الفكري والمادي.

كما انزهه عن مواجهة حكومة لم تبخل بكل ما لديها من امكانيات لازدهار الطبقة الشغيلة كعدو لها اذ لا موجب ولا مبرر لعداوة ليس لها من ورائها غنم.

ولا أخاله مقدما على الانتحار بسلوك التهريج والتقتيل وتقويض اسس الامن الاجتماعي لان سن مثل هذا السلوك واتباع هذه العقلية يرجع بالوبال على المجتمع وعلى ازدهار الامة وطمأنينتها ولان المذهب النقابي يتجلى غالبا بلون وطقس البلد الذي يترعرع فيه ولان تطوره وحريته رهينا المناخ الديمقراطي وسياسة الحكومات التي لا تقول بالمذاهب التطرفية ولا بالمساومات ولا بالقوة سلاحا للكبت وللاعتداء على ما اجمعت عليه كلمة الامة ولان استقلاليته كان من الممكن ان تأخذ الغيرة عليها مأخذ الجد بل ان تكون محل اعجاب لو اظهر اصحابها من الحرص على استقلال الاتحاد في الخارج بقدر ما اظهروه من الحرص على استقلاله في الداخل.

فمن الغريب ان توجس قيادة الاتحاد السابقة خيفة من الحزب في حين ترتمي هذه القيادة في احضان نقابات اجنبية فتعهد لها برعاية ابناء تونس في الخارج؟ فكيف تطمئن قيادة الاتحاد الى منظمة (س ، ج ، ت) الفرنسية المعروفة بعدائها للمبدأ القومي المتحرر الذي تأسس عليه الاتحاد لترعى العملة التونسيين؟ ثم ما معنى ان تتهم غيرها باطلا بالتدخل في شؤون الاتحاد، في حين تفتح الباب على مصراعيه لتدخل منظمات نقابية اجنبية في شؤون العملة التونسيين ولو كانت هذه المنظمات صديقة او شقيقة.

 

مقررات للتدخل في شؤون البلاد

فهل من باب الحرص على استقلال الاتحاد هذه المقررات التي اتخذت اثناء رحلة قام بها في اواخر ديسمبر 1977 ثلاثة مسؤولين من المكتب التنفيذي السابق وهم محمد الصالح بن قدور والصادق بسباس وحسن حمودية الى بلد مجاور وعلم بها الرأي العام التونسي والعالمي عن طريق وكالة انباء ذلك البلد واتخذت اثناءها مقررات سمحت بالتدخل في شؤونه؟

وهل من باب الحرص علي استقلال الاتحاد التوكل على اساتذة علوم السياسة المتنبئين بكل شر للبلاد والاستسلام لمنظمات وقوى اجنبية والاستكانة اليها والتمسح على اعتابها؟

فأي استقلال هذا؟ واين هي حرمة الاتحاد أفلم يكن التخوف المزعوم من منظمتنا الوطنية سوى غشاوة تحجب هذه التصرفات الغريبة ومناورة لصرف الانظار عنها؟ هي ضرب من ضروب الاستفزاز عملا بالطريقة المعهودة لدى الحركات المتطرفة التي تفتري التهم وترجم بالغيب لاخماد كل صوت وشل كل قوة تحمي المجتمع من السقوط تحت هيمنتها والحقيقة ان المحاكمة تقصد ذات المتهمين الذين حادوا على مبادئ الديمقراطية مثلما تبين من تنظيمهم لدواليب المنظمة الشغيلة بما يحقق الاستبداد بالرأي ويكفي ان ارجع بكم الى شهادة السيدين مصطفى مخلوف ومحمد ثليجان المسؤولين سابقا بالاتحاد فقد ذكر الاول انه بلغه ان الحبيب عاشور عقد اجتماعا مساء يوم 26 مارس 1977 سريا بالطابق التاسع من نزل اميلكار وضم عددا من النقابيين اوصى اثناءه الحاضرين بالتصويت لقائمة هي التي فازت اثناء الانتخابات.

اما الثاني فقد شهد ان الحبيب عاشور اقحم بعض العناصر بالمكتب التنفيذي للاتحاد مثل محمد الصالح بن قدور والطيب البكوش والصادق بسباس واوصاه كما اوصى الكتاب العامين للاتحادات الجهوية بالتصويت لفائدتهم.

والحقيقة ايضا ان المتهمين هم المقصودون بالمحاكمة من اجل ما اقترفت ايديهم، والاحداث شاهدة على ذلك فالنظام كان عرضة لتهجماتهم ولأبشع التهم واقذع الشتائم، فمن ذلك هذا التساؤل الوارد في جريدة الاتحاد (17 سبتمبر 1977) هل هناك من تمتع يحقوقه السياسية في هذه البلاد طيلة العشرين سنة الماضية؟ الجواب المزعوم نجده في اعمدة نفس الصحيفة «ان الحكم القائم لم يسمح منذ عشرين سنة بأن ننعم ولو يوما واحدا بالحرية السياسية أو حرية التعبير ووصفهم للدولة بكونها استعمارية واستمرارها على تبعيتها للاستعمار ومحافظتها على كيانه بشكل اخر.

 

نكران شرعية النظام

ابعد هذا لم يبق الا نكران شرعية النظام والدعوة الى مقاومته هذا ما نجده في جريدة الشعب ايضا: «ان الشرعية الوحيدة التي يمكن لهؤلاء ان يتمسكوا بها هي شرعية العنف»، فمتى صدر هذا العنف عن الدولة؟

ان المسؤولين على حظوظ هذه البلاد تمسكوا بالهدوء واهابوا بالمتهمين حالة كونهم مسيرين للمنظمة الشغيلة حتى يراعوا مصلحة البلاد ويعملوا على حل المشاكل بالحوار وفي نطاق احترام القانون، وعلى هذا الاساس توالت محاولات الصلح طيلة الاشهر الاخيرة من السنة الفارطة بدأت بمصالحة 7 سبتمبر اثناء اجتماع الديوان السياسي اثر رجوع الحبيب عاشور من ليبيا وحصل فيها الاتفاق على ان يلقي الوزير الاول خطابا لتهدئة الرأي العام لكن لم تمر عليها ثمان وأربعون ساعة حتى تأزمت الحالة من جديد نتيجة لتهجمات جريدة الشعب الصادرة في 9 سبتمبر وللمظاهرات التي دعا اليها المسؤولون النقابيون في صفاقس وانطلقت من دار الاتحاد بشعارات تدعو الى الثورة وتكيل شتى التهم السافلة للحكومة وتم اثناءها ايقاف عناصر برزت بالشغب النشيط كان من بينهم من المتسكعين استاذ وعامل بديوان الصيد البحري ومستخدمون بشركة صفاقس قفصة وزاد الطين بلة ما دار في اجتماع الهيئة الادارية للاتحاد يوم 15 سبتمبر وما وجه فيها من تهم للحكومة بل ولنظام البلاد منذ الاستقلال ومرة اخرى واجهت الحكومة الاستفزاز بالهدوء وتدخل رئيس الدولة بنفسه حرصا على اجتناب التصادم وضمانا للتفاهم والوفاق.

ولم تمض على هذه المصالحة الثانية الا اسابيع قليل حتى عاد التوتر بتهويل حادثة التوعد بالقتل فشنت الاضرابات وعمت الاضطرابات مدنا عديدة من الجمهورية حسب مخطط كان المتهمون يضبطون مواعيد تنفيذه واماكن تطبيقه ولا ننسى هنا ما وقع اذاك من تخريب ونهب وحرق واعتداء على المواطنين في سوسة وباجة وماطر وسيدي بوزيد ولا شك انه ليس من قبيل الصدف ان اختير لهذه الاضطرابات موعد انعقاد ندوتين دوليتين في تونس ندوة وزراء الخارجية العرب وندوة وزراء الاقتصاد العرب ولعل الغاية من هذا الاختيار محاولة تشويه وجه تونس لديهم.

ويأتي اجتماع الهيئة الادارية للاتحاد يومي 15 و 16 نوفمبر لوضع النظام في موقف المتهم ولتكال له اخطر التهم منها وصفه بالارهابي والقائم بالتصفيات الجسدية وباقحام البلاد في متاهات الاغتيال السياسي، فما كان من المسؤولين في الدولة الا ان سعوا مرة ثالثة الى مواصلة الحوار، وكان اجتماع الديوان السياسي يوم 19 نوفمبر وتمت المصالحة على اساس حماية التضامن القومي والتعلق بميثاق الرقي والحفاظ عليها من كل القوى الهدامة وتطبيق الميثاق الاجتماعي والتمسك بالحوار الحر النزيه.

مصالحة ثالثة لم تدم طويلا

لكن سرعان ما قضت الاحداث على هذه المصالحة الثالثة فكانت المناوشات وكانت المطالبات المشطة التي تتضارب مع العقد الاجتماعي وكانت الاضرابات والمظاهرات وتوج كل ذلك اجتماع المجلس القومي ايام 8 و 9 و 10 جانفي وقوبل كل ذلك بالسعي الى اجتناب القطيعة فاستجابت الحكومة الى اخر لحظة لمطالبات ما اتى بها العقد الاجتماعي ولا تتماشى مع التزامات مسيري الاتحاد واستجابت قبيل حوادث جانفي لجل المطالب التي تقدم بها مسيروه لفائدة اعوان الشركات والقطاعات التالية: شركة صفاقس قفصة وشركة السكك الحديدية وشركة الفولاذ والشركة التونسية  للبلور وشركة تكرير النفط والصيدلية المركزية والديوان القومي للسياحة والشركة التونسية للمقاطع ولا يخفى ما تمثله هذه الشركات والقطاعات من أهمية من حيث عدد الاعوان وحتى عندما بادر الحبيب عاشور باستقالته من الديوان السياسي فان المسؤولين في الحزب والحكومة لم يتخلوا عن موقف الاعتدال والرصانة فقد صرح الوزير الاول بأن مواصلة الحوار امر متحتم وانه من واجبنا ان نجد القاسم المشترك بيننا واكدت اللجنة المركزية للحزب من جهتها على «تضامن الاطراف الاجتماعية وتشاورها في ضبط الاهداف».