آراء حرة

الإنتصار التونسي على "الرجل الأبيض"

بقلم: صبري الرابحي
مازالت كرة القدم تدهشنا برسائلها الإنسانية التي ترد تباعاً من فوق الأرض العربية شاحذة فينا عزائم أعياها الخذلان. فبعد انتصار السعودية والمغرب (وارتقائها الى دور الاربعة)، انتصرت تونس على فرنسا حاملة آخر لقب عالمي.

لم نكن نحن العرب من مبتدعي التفرقة العنصرية المعاصرة التي نرى اليوم، يتساوى الرجال عندنا في كل شيء ويتمايزون عن بعض بما أدركوا من بطولات لذلك يحق لنا الفخر بأسلافنا على إختلاف ألوانهم وأعراقهم وتجدنا نبحث عن ذلك الفخر حتى في أصغر إنتصاراتنا.
كرة القدم مثلاً أنصفت كل ما فينا، فلم نلبث بعد في فخرنا بالمنجز السعودي التاريخي حتى لاح لنا نصر المنتخب التونسي على نظيره الفرنسي بما فيه. نصر حطم مهزومياتنا وجدد أملنا في التمرد على الحلم.
خلال أيام من إنتظار يوم المقابلة كان الإعلام الفرنسي يتناوب على السخرية من رهان المباراة، لم يكن يحق للكثيرين أن يحلموا بإنتصار تونسي مقنع على بطل العالم حتى إشعار آخر من الفيفا.
أسماء اللاعبين وفرقهم المتطورة و العصرية وقيمتهم السوقية كانت كلها محددة في التكهن بنتيجة المباراة من خارج دوائر الأمل والعزيمة والتحدي.
الجمهور العربي نفسه لم يكن يصدق وسوسة عروبته بأن وهم الرجل الأبيض زائل وأن تجدد التمرد عليه جائز منذ " ديان بيان فو " وفوق كل أرض منصفة.
أما ما وراء لعبة الأحد عشر لاعباً والكرة الجلدية فتختفي نظرة فرنسا لمستعمراتها السابقة، تلك الضعيفة المتناحرة التي لا يحق لها أن تتمرد على الإرث الإستعماري الذي لم يشكل جلاؤه العسكري إلا خطوة منقوصة من جلاء هووي حقيقي لم يأت بعد.فطالما إعتبرت المستعمرات السابقة نفسها ضعيفة أمام فرنسا سياسيا وإقتصاديا وثقافيا ولم يكن الإذعان الكروي بعيداً عن كل هذا.
خلال السنوات الأخيرة وجد اليمين المتطرف في فرنسا في قضايا دحر المهاجرين والتصدي للهجرة غير الشرعية بيئة خصبة لإستمالة عديد الناخبين حتى أن الإنتخابات الفرنسية الأخيرة أصبحت تنذر بالخطر المحدق بمن لم يتسن لهم تسوية وضعياتهم القانونية بعد أمام حملات ممنهجة من التشويه حد العنصرية والمطالبة بطردهم من التراب الفرنسي.
لقد صار اليمين المتطرف في فرنسا يضيق ذرعاً بإختلاف الأعراق المستوطنة لفرنسا ويدعو إلى عودة الرجل الأبيض إلى مكانته القديمة، تلك التي لا يقربها الهمج والبربر، غير أن العولمة إستطاعت أن تحدث الأفاعيل في البنية العرقية للشعوب وأهمها فرنسا، فصار منتخبها الوطني خليطا من الأفارقة والصرب والعرب، فعن أي رجل أبيض يبحث التعالي الفرنسي المغتر بالفرنسيين الوظيفيين في منتخبه القادمين من جنسيات أخرى.
الأجدر هو تجاوز الأمر وتقبل الفسيفساء العرقية التي لا تنضبط للحدود الإقليمية ولا يمكن بأي طريقة منعها من التمدد في أي مجتمع حتى ولو بلغ الأمر تحصينه بإرثه الإستعماري المتعالي على الشعوب كما تفعل فرنسا، ففي النهاية إنتصرت تونس حتى في مجرد مباراة كرة قدم وكان نصرها أكبر من الإنتصار في اللعبة وإنما كان هزيمة أخرى لمن يزعجه أن تكون تونس حرة.
في النهاية، أعظم ما في المباراة كان نزول الراية الفلسطينية إلى أرضية الملعب فوق سواعد شاب تونسي يلبس "الشاشية" فكان إنتصار التونسيين لفلسطين أهم من أي نصر آخر عرفوه من قبل.
ومازالت كرة القدم تدهشنا برسائلها الإنسانية التي ترد تباعاً من فوق الأرض العربية شاحذة فينا عزائم أعياها الخذلان.