سوء تقدير مؤسّسة العقاب سبب للتسرّع في الاحتفاظ والإيداع
كتب القاضي الطاهر بن تركية :
" ترددت في الكتابة في هذا الموضوع، بالنظر لصفتي كقاض، درءا لكل ما عسى أن ينجر عن ذلك من تأويل خاطئ، لكن كتبت باعتبار أن كرامة الإنسان في المقام الأول وهي جوهر العدل وكنهه
لذا أقول:
متى ينتهي التسرع في الإحتفاظ garde à vue والإيقاف التحفظي détention préventive حال كونهما وسائل استثنائية بقوة القانون؟
متى ينتهي الإفراط في استعمال هذه الآليات الاجرائية، لكي لا أقول التعسف، خاصة وأنها إجراءات إحترازية يقع تفعيلها لمسوغات واضحة وصريحة ضمانا لسيرورة الخصومة الجزائية وليس عقابا للمظنون فيه prévenu وبعنوان دفعة على الحساب من العقاب؟
متى يضع القاضي الذي أصدر قرار الإحتفاظ أو الإيقاف التحفظي، وغالبا ما يكون قاض فردي، نفسه أو أحد أفراد عائلته مكان المحتفظ به أو الموقوف تحفظيا، باعتبار أن كل إنسان مرشح لإقتراف جريمة في أي وقت، فإن لم تكن جريمة قصدية فتكون غير قصدية، حادث مرور مثلا؟
متى نتخلص من المزاجية الى حد الانفعالية والعنجهية في بعض الأحيان في تطبيق الإجراءات القانونية القاسية بطبعها؟ والقاضي يخطأ حتما في زحمة العمل خاصة عندما يكون قراره فرديا !
متى تستقيم المعادلة بين البراءة المفترضة innocence présumée والإدانة المحتملة condamnation éventuelle ويقع على ذلك الأساس تفعيل قرينة البراءة بالوجه المقرر قانونا وبما يتماشى والذوق السليم؟
متى يصبح جهاز النيابة العمومية وكذلك جهاز التحقيق يبحثان عن البراءة بنفس درجة البحث عن الإدانة وربما أكثر باعتبار أن الأصل في الأمور صفاء النية وسلامة الطوية وبراءة الذمة ؟
متى تصبح كرامة الإنسان وحقوق البشر وحرمتهم المعنوية والجسدية في المقام الأول وتربو على جميع المصالح بما في ذلك مصلحة الحق العام؟
أي دولة هذه وسجونها ممتلئة الى درجة التضخم بقضايا أغلبها جنح إن لم تكن مخالفات والمساجين أغلبهم في ريعان الشباب !!!
متى يقوم القضاء المجلسي، والعبرة به لتوفر أكثر ضمانات، بدوره التعديلي والتصحيحي بما يتماشى وقواعد المحاكمة العادلة وهي الغايةun chiffre خاصة وأن المؤسسات السجنية لم تكن في يوم من الأيام مؤسسات علاجية إن لم تكن حاضنة للإجرام pépinière de criminalité؟
متى يصبح المواطن يفاخر ويكابر بقضائه العادل، الذواق والرحيم في آن واحد باعتبار أن الرحمة قبل العدل إذ أنه لا خير في عدل منزوع الذوق والرحمة؟
متى تستقيم المعادلة والملاءمة بين القاعدة القانونية الصلبة والمتحجرة والواقعة القانونية اللينة والمتغيرة؟
متى نتخلى عن تقديس القاعدة القانونية المجردة والعنيفة في معظمها لنرتقي لتقديس الإنسان واحترام كينونته؟
متى ننتهي من إسقاط القوالب الجاهزة والقواعد المحنطة على واقع جزائي معطوب يناشد الإصلاح والعلاج بكل الأدوات العلمية وفي أقرب الاجال ؟
متى نتخلص من إنكسار حرية الإنسان على عتبات مراكز الأمن وفي رحاب المحاكم؟
متى يتخلى "رجال العدالة" عن كبريائهم للنزول الى الواقع اليومي الملموس ومصافحة رومنتيكية البؤساء والمظلومين؟
متى تصبح الضابطة العدلية la police judiciaire من ملحقات وزارة العدل ويتلقى أعضاءها تكوينا تطبيقيا بالمعهد الأعلى للقضاء الى جانب القضاة وكتبة المحاكم واطارات السجون والإصلاح وغيرهم من مفردات العائلة القضائية، فالحمل ثقيل والمسؤولية جماعية بالأساس؟
في كلمة :
إن التسرع في الإحتفاظ وفي الإيداع وفي النفاذ العاجل مناطه سوء تقدير لمؤسسة العقاب لا مبرر له والمسألة لا علاقة لها بالعدل والانصاف كمفهوم فلسفي للعقوبة خصوصا في زمن أصبح فيه العقاب الجزائي علاجا un traitement بدلالة توصيات مدرسة الدفاع الاجتماعي وغيرها من المدارس التي تناولت فلسفة الجريمة والعقوبة وتعمقت فيها بالدرس والتمحيص على أساس قواعد علمية ثابتة وليس بالتخمين.
متى، متى، متى ؟؟
أنقذوا الإنسان من الإنسان "