فيلم "اليأس الأفريقي" يضحك على الغضب القادم في أميركا
"لا يشعر بلسعة النار إلا القابض على الجمر"، تنطبق هذه المقولة على ذوي الأصل الأفريقي في الولايات المتحدة، حيث يطاردهم تاريخ من الاستعباد والإذلال، وواقع قد يزعم المساواة لكنه يخفي تحت السطح عنصرية مقيتة.
واقع اجتماعي يعترف به المنصفون من الأميركيين، لكن النار تظل في أيدي ذوي البشرة السوداء والملونين أيضا، خاصة لو امتلكوا موهبة وطموحا فنيا، وهو ما قد يحولهم إلى متمردين قساة على أنفسهم وعلى الآخرين.
من بين هؤلاء، جاءت المخرجة مارتين سيمز، التي قدمت فيلم" اليأس الأفريقي" (The African Desperate)، وهو عملها الروائي الأول الذي يطرح أسئلة قاسية تخرج عن النطاق المحلي الأميركي إلى الأفق الإنساني العام في شتى أنحاء المعمورة.
ومن بين هذه الأسئلة الحارقة: هل يعني تحرير الأرض من الاستعمار تحريرا للبشر؟ وهل يعني إطلاق أجساد الأفارقة الذين استعبدوا في الولايات المتحدة من الأغلال تحريرا للعقول والأرواح من آثار العبودية؟
لجأت سيمز إلى العديد من الجهات التي أسهمت في تمويل فيلمها، بعيدا عن سيطرة التيار الرئيسي للصناعة السينمائية الأميركية، وعرض في سبتمبر الماضي ، وحقق في الولايات المتحدة وكندا ما يقارب 30 مليون دولار في الأسابيع الأولى له.
يرصد فيلم" اليأس الأفريقي" الوقت الذي قضته المخرجة في دراسة الماجستير في الفنون الجميلة في "كلية بارد" بنيويورك، التي تم تصوير أغلب مشاهد الفيلم فيها.
- حدود المعركة
يكشف الفيلم من المشهد الأول عن حدود المعركة ومجالها، حيث تدور في معهد فني راق، يبدو ساميا فوق كل ما من شأنه أن يميز البشر عن بعضهم البعض، لكن أساتذته يتبجحون بتسلطهم وقدرتهم على استخدام السلطة في التمييز.
ورغم قسوة الموضوع، فإن العمل يأتي في إطار كوميدي ساخر، ويحفل بكثير من النقد الاجتماعي لنمط الحياة الأميركية، بالإضافة إلى رصد المغالطات في عالم الفن.
وتدور الأحداث حول الفتاة "بالاس" (تقوم بدورها الممثلة ذات الأصل الأفريقي دياموند ستنجلي) التي تدرس للحصول على ماجستير في الفنون التشكيلية، وتعمل في النحت، وتشارك في بينالي فينيسيا من بين معارض أخرى تستقبل أعمالها، وهو ما يثير غيرة الزملاء والأساتذة على حد سواء.
هم يعتقدون أن نجاحها يعود لأسباب لا تتعلق بما تقدمه من فن، ويرون أنه لكونها أفريقية الأصل تعتقد المؤسسات أنها تتعرض للظلم دائما وينبغي مساندتها بصرف النظر عن جودة ما تقدمه.
تصاب الفتاة بإحباط شديد، وتقرر العودة إلى المنزل لرؤية أسرتها، وتخطط للاحتجاج الصامت بعدم حضور حفل التخرج والحصول على الماجستير.
استطاعت المخرجة أن تصل إلى طبقة خفية في المجتمع الفني والأكاديمي وتنقلها للمشاهد، ليس فقط من أجل صرخة ألم أو تحرر من العنصرية وأشباحها التي تطاردها، ولكن لتحذر أو تسجل أن حراكا مجتمعيا ستهتز له أميركا يمكن أن يخرج منها.
- تقييم عنصري
في بداية العمل، تقف الطالبة بالاس لتدافع عن عملها النحتي أمام لجنة من 4 أساتذة من العرق الأبيض، ولديهم ذلك الشعور بسلطة الأستاذ الأكاديمي، وهو مقبول في سياقه، لكن الشعور بالسلطة الأكاديمية امتزج بشعور آخر يتعلق بكون الطالبة سوداء، فجاءت التعليقات على النحت عنصرية وساخرة، لكن ردود الطالبة جاءت أشد سخرية وأكثر قدرة على كشف عنصرية الأساتذة مما اعتقدوا.
تسقط طالبة الماجستير أسيرة محنة حقيقية، فهي ترى الأساتذة الساخرين كأنهم يأمرونها بألا ترد سخريتهم بسخرية مثلها، لأنهم لا يريدون أن يكونوا أعداء لها، حرصا منهم على التنوع الشكلي الذي يؤكده وجودها في المعهد.
لم تتحرر المخرجة من جذورها الأفريقية رغم ولادتها في نيويورك، ولا تستطيع أن تتجاهل كونها فنانة تشكيلية تقدم مساحات خاصة جدا بين السخرية والغضب والحب، والرفض والرغبة في التبرير.
تنعكس خبراتها كفنانة تشكيلية على مشاهد فيلمها، ويبدو ذلك واضحا في الاختيارات اللونية، واستعانتها بلوحات تشكيلية ذات مواضيع حديثة مزجتها مع الجمال الطبيعي لمدينة نيويورك وشكلت مشاهد رومانسية غاية في الإبداع والجمال.
تفيض المشاهد بالمشاعر الثرية المغلفة بالغضب، التي انعكست على أسلوب إخراج العمل؛ فصورت الوجوه في مختلف تحولاتها من السخرية إلى الضحك والفرح والابتسام والحزن في لقطات مركزة.
وفي مشاهد المكالمات الهاتفية، لا تكتفي المخرجة بنقل انطباع عام وفحوى المكالمة بوصفها "وقتا دراميا ميتا"، بل تظهر الوجوه عبر لقطات مكبرة تعبر بصريا قبل أن تعبر صوتيا عما يدور بين الطرفين، ولا تكتفي بتلك المحاولة للتجديد في التعبير بالصورة، ولكنها تصنع تداخلا صوتيا في المكالمة يبدو كأنه يعيد صياغة الجمل المنطوقة لتخبر المشاهد بحقيقة أخرى.
الفيلم لا يشبه تلك الأفلام التي تدور في الجامعات أو المدارس الثانوية، ورغم أن زمنه الدرامي ينقضي معظمه في حفل التخرج، الذي أجبرت البطلة على حضوره من قبل زملائها، وهناك تحفر عميقا بالكاميرا لتصل إلى تلك الطبقة السحرية التي تنتج وقودا يبقي التمييز العنصري قائما في الواقع ولو في الخفاء.
- حياة السود
لا يشبه فيلم "اليأس الأفريقي" تلك الصرخة التي أطلقها جورج فلويد فتشكلت حركة "حياة السود مهمة"، ولكنها أيضا صرخة بصرية قادمة من أعماق الروح، وتعالج جروحا لم يسببها ضابط شرطة متوسط المعرفة أو قليل الثقافة، ولكن سببها فنان وأستاذ نخبوي يمثل أمام الكاميرات دور المتسامح.
استخدم صناع العمل مواقع التواصل الاجتماعي على الشاشة داخل نسيج الفيلم بشكل مذهل، لتكتمل صورة حياة الجيل بأكمله ووسائله في التواصل والتعايش والهروب من واقعه، وبين أضواء الحفل النارية كجزء من مشهد واقعي درامي.
يبدو ذلك المزج بين الحفل وصور مواقع التواصل إشارة إلى التماهي بين حياتين تعتقد كل منهما أن الأخرى واقع افتراضي، وفي الحقيقة المرة يظهر أن كلا منهما وهم.
حاولت مارتن سيمز التماهي مع الواقع، لتصل إلى أقصى حدود اللامبالاة والانفصال والسمو فوق الحقيقي والافتراضي هربا نحو ضحك يشبه البكاء.