ما زال أمد «الشعبوية» طويلا
الشعب نيوز/ متابعات: كتب الصحفي بحريدة الشعب طارق السعيدي مقالا صدر بالجريدة بالعدد 1731 ليوم الخميس 26 جانفي 2023
تعيش بلادنا على وقع مسار سياسي غائم يتّسم بالركود في منطقة برود إذ لا تملك المعارضة ما يستوجب الأمر من انتشار شعبي لتقلب الأوضاع لصالحها ولا يملك الحكم ما ينبغي من إمكانات النجاعة التي تجعله يتجاوز هذه المرحلة المطوّلة من تاريخ الانتقال. في هذا الخضمّ من الركود السياسي والفشل الاقتصادي تفوح رائحة «الشعبوية» من كلّ مكان لتعلن أنّها ستكون العنصر الأبرز واللون الظاهر في العملية السياسية للسنوات المقبلة. فالشعبوية لا تتطوّر وتزدهر إلاّ مع الأزمات الاقتصادية ومع بوادر عدم اليقين وقد لا يصعب علينا أن نلاحظ أن تنامي موجة الشعبوية في العالم قد تزامنت مع أزمة الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي فشل في خلق التنمية.
أوّلا، ما الشعبوية؟
إنّ محاولة قراءة الواقع السياسي ومكانة الشعوبية المتوقّعة في المشهد تستوجب قبل ذلك تعريفها. وإذا كان هذا المفهوم عسيرا عن الإحاطة بشكل شامل في إطار مقال الحال يصبح من الأنسب التوقّف عند ما يمكن الاستقرار عليه منطلَقًا للتحليل. ولعلّ أبرز ما يمكن ذكره في محاولات تعريف الشعبوية وجود مدرستين تعتبر الأولى أنّ الشعبوية إيديولوجية وتقدّم فهما للمجتمع ولإشكالياته، فالشعبوية، وفق هذه المدرسة، تعتبر أنّ سبب كلّ المشاكل هو وجود شعب طاهر ونخبة متعفّنة فاسدة وفق تعريف «كاميدو» و«كريستوبال كالتاوسار».
أمّا المدرسة الثانية فتعتبر الشعبوية مجرّد منهجية معتمدة من قبل الزعيم السياسي من أجل الوصول إلى السلطة عبر الدعم الجماهيري المباشر دون وساطات ودون تنظيم وفق ما يراه «كيرت وايلاند»، أي إنّنا أمام نوع من الشعبوية البراغماتية. وحتّى نتجنّب الانزلاق نحو المقال الأكاديمي فإنّه يمكن اختزال الأمر في أنّ الشعبوية هي ترديد ما يطلبه الجمهور. وكما أنّ البرامج الإذاعية البدائية تجمع رغبات المستمعين الغنائية بمكالمات هاتفية ثمّ تعيد بثّها فتكسب نسب استماع هائلة٬ إذن الشعبوية أن تستمع لطلبات الجماهير وتعيد صياغتها في شكل شعارات وعبارات لا تعني في الغالب شيئا وتكتسب بها ومن خلالها انتشارا واسعا.
مسار معمّم
إنّ تتبّع مسار الشعبوية في تونس يؤكّد أنّها ليست حكرا على جهة سياسية بعينها وإنّها لا تنحصر، فحسب، في الخطاب التفسيري الذي يحاول تقديمه من ينسبون أنفسهم إلى مشروع الرئيس عبر الجمل المكرّرة حول الشعب من قبيل «لا حوار إلاّ مع الشعب» و«لا شرعية إلاّ الشعب» وتلك المقولات حول فساد النخب وإجرامهم وتنكيلهم بالشعب المستمدة من الخطاب الرسمي. وبالعودة قليلا في الزمن نجد أنّ مسار الشعبوية قد انطلق منذ حفلات الختان الجماعي التي قامت بها حركة النهضة ومنذ الوعود بخلق 400 ألف موطن شغل وتحويل سبخة السيجومي إلى منتجع سياحي وبناء كلية طب في مدنين وغيرها... والحقيقة أنّه كان يمكن الاكتفاء بالقول إنّها مجرّد وعود زائفة لولا محاولات السطو على المؤسّسات في الحكم وخارجه، من خلال توظيف الجموع على أنّها الجماهير ليبرز الطابع الشعبوي للشعارات المذكورة.
بعد ذلك ظهرت شعبوية أخرى في خطاب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وهو يتحدّث خلال حملته الانتخابية عن حرمان الناس من اللحم ثمّ ذرف الدموع بكاء على امرأة لم تأكل اللحم منذ أشهر. وقد تجسّدت الشعبوية بشكل واضح في طريقة تعامله مع حزب نداء تونس الذي أراد تحويله إلى حوز خاص بشهادة القيادات الحزبية آنذاك وحتى المقرّبين منه بفعل القرابة والمصاهرة. والحقيقة إنّ خطاب المنتسبين إلى الأطروحات العقلانية بما في ذلك المنتسبون إلى اليسار لم يخلُ أيضا من نفَس شعبوي خاصة خلال الحديث عن قفّة المواطن عند تحليل الوضع الاقتصادي والاجتماعي حتى فقد ذلك المصطلح معناه ومغزاه السياسي. كما ظهرت بعض المحاولات الشعبوية مثل حزب «توة توة» وتجربة الهاشمي الحامدي التي برزت بمضمون شعبوي خالص. وقد برز أنموذج آخر من الشعبوية بطله الحزب الدستوري الحر الذي روّج في البداية خطابا تخوينيا لكل القائلين بحدوث ثورة او انتفاضة واتهامه بالانخراط في مؤامرة كونية ضد تونس ثم اختزل الصراع كل الصراع مع طرف سياسي أيا كان الموقف منه مستغلا الاستياء العام من فترة حكم النهضة وشركائها. وبشكل عام فإنّه يمكن القول إنّ الشعبوية في تونس انتشرت وتنامت ليس فقط لأسباب تنموية ثقافية بل وأيضا بعد أن استعاضت الأحزاب عن أبجديات العمل الحزبي بتقاليد أقرب إلى العمل الإشهاري التجاري منه الى النضال.
وجهان لعملة واحدة
لقد تنامت الشعبوية التونسية وترعرعت في أحضان الفقر فهذه الشعبوية تختلف كثيرا عن شعبوية «ترامب» و«ساركوزي» التي برزت في إطار مجتمعات تعرف حالة متقدّمة من الوفرة ومسار تشكّل للهويات والأفراد أكثر حداثة. كما تختلف عن الشعبوية اليسارية التي ظهرت في بلدان أمريكا اللاتينية وإيطاليا من حيث الصياغات. وإذا كانت الشعبويات تتشابه في القراءات والخطاب والموقف من الديمقراطية فإنّها تختلف من حيث سرعة الانتشار والقدرة على البقاء أمدا طويلا ومن حيث إمكانية تجديد نفسها ولعلّ هذه السمة الأخيرة ما يميّز الشعبوية في تونس.
إن خصوصية الشعبوية التونسية لا تكمن في الشعبويين الذين يتغيّرون باستمرار بل تكمن في محيطها أو مجالها الذي جمع الفقر والخصاصة والفساد والفشل السياسي الذي يتميّز بتشتّت المشهد السياسي ممّا همّش قدرة الديمقراطية على تقديم بدائل ناجعة وسط التجاذب السياسي والابتذال في الخطاب الرسمي وغير الرسمي.
في هذا الإطار برز أنموذج خاص للشعبوية في تونس يحمل وجهيْن لعُملة واحدة. ويمثّل الوجه الأوّل في تجربة العمل الخيري السياسي حيث يتقدّم الزعيم السياسي إلى الناس بوصفه قائدا سياسيا له تصوّر وبرنامج بل بوصفه خيّرا وقدّيسا يغدق المال على الفقراء وينتشل العائلات من براثن الفقر بعد أن تخلّت عنهم الدولة. بعد ذلك يقدّم الزعيم نفسه كمشروع سياسي. وبقدر ما يغدق الزعيم السياسي من المال وبقدر العطاء بقدر ما يتعزّز انتشاره وترتفع شعبيته ويمكن هنا أن نذكر تجربة نبيل القروي رغم أنّها انتهت سريعا لأسباب خاصّة بصاحبها. أمّا الوجه الثاني من العُملة فهو عدم الإغداق والتعفّف والطهورية الزائدة عن الحدّ التي توجّه المعركة السياسية بكلّ ثقلها نحو النخبة وخاصة نحو ما يفترض في أنّها حصلت عليه من امتيازات ومنافع وإن كانت بجهدها الخاص. وبقدر ما تتعطّش الجماهير إلى العطاء وإلى دولة تساندهم فإنهم يرجون بنفس القدر معاقبة النخبة وتجريدها من كلّ ما قد تكون اكتسبته من موقعها كنخبة وهو ما يجعل الشعبوبة المغدقة والشعبوية المتعفّفة وجهيْن لعُملة واحدة.
الشعبوية القادمة
ربما أطنبنا في الحديث عن خطاب الشعبويين وسلوكهم دون أن نتحدّث عن المنخرطين من المواطنين والناخبين الذين يمثّلون مخزونهم ومصدر قوّتهم. والحقيقة إنّ الحديث عنهم لا يجب أن يتّخذ منحى الاتهام والتخوين كما لا يجب إدانة المنخرطين في السياقات الشعبوية وذلك لعدّة أسباب. فمن ناحية نظرية يستوجب التّمايز عن الشعبوية مستوى وعي سياسي واجتماعي وهو ما لا يكتسب من خلال مشاهدة التلفاز بل من خلال مختلف مؤسّسات التنشئة في تونس. وإذا ما اطّلعنا على واقع المدرسة بمختلف مراحلها وتغييب الفكر النقدي فضلا عن ضعف التكوين من بقية مؤسّسات الدولة من دور شباب ونوادٍ ثقافية وغيرها إضافة إلى غياب المجتمع المدني وتراجع دور الأحزاب فضلا عن الفقر والخصاصة والتهميش وضيق الأفق وانعدام الثقافة الوطنية (وهي سمات تشتغل عليها الشعبوية وتستفيد منها أيما استفادة) عرفنا أنّ تكوين الأفراد وتحصينهم فكريا وثقافيا كان هشّا إلى أبعد الحدود. وإذا ما دقّننا الأمر فإنّنا بصدد الحديث عن سياق تشكّل هوية الأفراد في تونس وهي هويات غير مكتملة ناتجة عن الحداثة المتربكة أو الحداثة المعدومة على حدّ تعبير عبد الله العروي. ثمّ أليست السياسة بشكل ما هي القدرة على الإنجاز، وباعتبار أنّ الشعبوي المغدق على الجماهير بالمال قد حقّق ولو مصلحة آنية جزئية فإنّ ارتسام انطباع حول قدرته على حلّ المشاكل في حال وصل إلى السلطة يصبح واردا ومقبولا. وبمعنى آخر فإنّ العطاء المقدّم من قِبَلِ الشعبوي يعتبر مقدّمة جيّدة لعطاء أكثر سخاءً في حال وصل إلى الدولة.
نوادٍ سياسيّة
إنّ من يجب لومَهم حقّا هم الأحزاب السياسية التي تحوّلت من فضاءات لتأطير الجماهير عبر النضال المباشر إلى نوادٍ سياسية تشهر بضاعتها أي مشاريع البرامج والشعارات من خلال الإعلام ولا شيء غير الإعلام. فالأحزاب بهذه الصيغة أصبحت تعوّل على الحضور الإعلامي لتكوين حاضنة شعبية وهو ما أفقد العمل الحزبي نقاط قوّته وخاصّة مضمونه النضالي وجعله هشّا أمام هجمات الشعبوية وغيرها من القوى ذات المصلحة في تآكل الحياة السياسية. إنّ استمرار الأحزاب على هذا الوضع مع استمرار وارد وشبه مؤكّد لطبيعة الفرد وعلاقته التكسّبية النفعية بالدولة، وتواصل بيئة الفقر، عوامل مجتمعة تجعل الأفق السياسي التونسي منحصرا بين الشعبوية بشقّيها. وقد لا يكون مفاجئا في الأشهر القادمة بروز نجم شخصية شعبوية أو طرح شعبوي جديد يفتكّ جزءا غير هيّن من النّاخبين ويشكّل أصحابه قوّة سياسية شعبوية.
فالأمر لا يتطلّب الكثير من الجهد بقدر ما يتطلب قليلا من المال يوزّع في العلن باسم مقاومة الفقر وإنقاذ الناس من الخصاصة. وهذه الشّخصية أو المجموعة، إذا ما استمرّ الحال كما هو عليه الآن، ستكون المنافسَ الجدّيَّ الوحيدَ للشقّ الآخر من الشعبوية.