بطحاء محمد علي الحامي فضاء شاهد على العصر " الحق النقابي بين الأمس واليوم"
الشعب نيوز/ كمال بوزيان: لا يخفى على القاصي والداني أن الاتحاد العام التونسي للشغل يمثّل ركيزة من ركائز الدولة التونسية لِما يكتسبه من مكانة فُضلى في الذاكرة الشعبية، نتيجةً لِمَا لعبه من دور في المقاومة وبناء الدولة الحديثة جنبًا إلى جنب مع الحزب الدستوري وكشريك اجتماعي لكل الحكومات المتعاقبة على تونس ما بعد الاستقلال من جهة، ولِمَا قدّمه من تضحيات في سبيل إعلاء راية الوطن من جهة أخرى.
ولا يختلف عاقلان حول ما حقّقه الاتحاد من إنجازات عادت بالنفع لا على الطبقة العاملة بالفكر والساعد فقط بل على المجموعة الوطنية ككل وعلى تونس كدولة، وذلك من خلال الانفتاح على المنظّمات الحقوقية والنقابية العمّالية العالمية واتفاقيات التعاون الدولية وغيرها، وفي كل المناسبات القارية أو الإقليمية إلاّ واجتهد الاتحاد في جلب مكاسب إضافية تخدم المصلحة العليا للدولة التونسية.
وقد أثّث العمل النقابي العديد من المحطّات النضالية عبر الزمن، فكانت كل الأحداث الوطنية شاهدًا على جسامة التحدّيات التي خاضها الاتحاد في سبيل العمّال تارةً وأمام نداء الواجب الوطني طورًا آخر، فامتزج الجانب النقابي بالبعد الاجتماعي والسياسي صُلب المنظّمة الشغِّيلة وهو ما فرضته وتيرة الأحداث.
ولئن انخرط الاتحاد العام التونسي للشغل في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في تونس بحسّه الوطني القاضي بمجارات كلّ الظروف التي تمرّ بها الدولة، وتقديمه لبعض التنازلات في كثير من المناسبات عبر الاستقرار الاجتماعي وعدم المطالبة بأيّ استحقاق عمّالي أحيانا، سعيًا منه عبر تهدئة الأوضاع في الأوساط المهنية وإلى خلق مناخ اجتماعي وسلم اجتماعية كفيلين بالمساعدة على الوصول إلى حلحلة بعض المسائل الوطنية التي مثّلت في وقت من الأوقات عائقًا حقيقيًّا أمام استمرارية السير العادي لدواليب الدولة، فكانت الإكراهات السياسية أساسًا وما شابها من تجاذبات ونزاعات بين كل الفرقاء السياسيين على اختلاف رؤاهم وتصوّراتهم ومشاريعهم الأمر الذي عقّد الأحداث وأضفى على كل المشهد صفة "الفوضى"، فإنه ما فَتِئَ وفي كلّ حدث يتحمّل كلّ المسؤولية بأكملها ويلعب دوره وواجبه الوطني بكلّ أمانة ليُنقذ ما يمكن إنقاذه من خلال طرح الحلول الحقيقية لمعالجة القضايا والإشكاليات المطروحة. إلاّ أنّ البعض من أصحاب النفوس المريضة لم يحل لهم ما يلعبه الاتحاد من وساطة حرّة ومستقلّة وهادفة، غالبًا ما ساهمت وبشكل مباشر في فضّ كلّ النزاعات، فكالوا كلّ أنواع التُّهم لرجالات الاتحاد في عملية استهداف بغيضة قصد إرباك العمل النقابي، وحاكوا كلّ أشكال الروايات الكيديّة لشيطنة المنظمة العمّاليّة، حتّى بلغ بهم الأمر إلى التهجّم على قلعة النضال ومحاولة الاعتداء على أمينها العام حسين العباسي ذات ديسمبر 2012، واعتبر الملاحظون في الشأن السياسي أن ما يتعرّض له الاتحاد يُعدّ أمرًا خطيرًا لا يمكن تخطّيه وغضّ النظر عن أسبابه ودواعيه! إلاّ أنّ مجريات الأحداث أخذت طريقها نحو الاستقرار المؤقّت، وطُويت صفحة سوداء مشوّهة من تاريخ تونس لندخل في مرحلة بناء أخرى للدولة ذات 25 جويلية 2021، فاستبشر الاتحاد بكل الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية في سبيل القطع مع عشرية مريرة وقاحلة، في انتظار المرور إلى مرحلة تنفيذ الاتفاقيات العالقة التي تنتظر التفعيل بعد إمضائها مع الحكومات السابقة، غير أنّ الحكومة الجديدة التي أرساها قيس سعيّد أصبحت تتنصّل شيئًا فشيئًا من مسؤوليّاتها في بعض الاتفاقيات كنقاط اتفاق 6 فيفري والمفاوضات الاجتماعية للزيادات في أجور القطاع العام، وما انجرّ عنه من توتّر العلاقة بين الطرفين النقابي والحكومي، علاوة على إصدار المنشور عدد 20/ 21 سيئ الذكر والقاضي بالتضييق على جلسات التفاوض وبالتالي سدّ باب الحوار مع الشريك الاجتماعي، ومن هنا اتخذ الاتحاد العام التونسي للشغل موقفًا مِمّا شهده من قرارات أحاديّة الجانب للطرف الحكومي، واتخذ كلّ الأشكال النضالية المتاحة بالقانون والمكفولة بالدستور للذّود عن حقوق منظوريه والدفاع عن استحقاقاتهم المهنية وحقوقهم المادية والمعنوية في ظلّ وضع اقتصادي واجتماعي مزري يستدعي التدخّل العاجل لوقف منسوب تدهور القدرة الشرائية وتراكم الديون جرّاء غلاء المعيشة.
وأمام هذه المواقف والقرارات النقابية وجد الاتحاد نفسه أمام موجة أخرى من الهجمات المسعورة التي تستهدف قياداته، وجملة من الإيقافات في صفوف النقابيين، في محاولة لتكميم الأفواه وتركيع المنظّمة العمّالية في استهداف صارخ لقلعة النضال، فكلّما لعب الإتحاد العام التونسي للشغل دوره الحقوقي والاجتماعي الطبيعي للذّود على استحقاقات منظوريه إلاّ وتحرّكت جهة موالية للنظام تسعى لتشويهه والحطّ من معنوياته لضرب حقّه في المطالبة بالحقوق الاجتماعية من جهة والحرّيّات من جهة أخرى!
وعلى الرغم من سعيه إلى إرساء جسور تواصل مع حكومة الرئيس عبر الدعوة إلى الحوار في أكثر من مناسبة، إلاّ أنّ الاتحاد كان يجد نفسه إمّا غير مُحقّق لمطالب منظوريه في بعض جلسات التفاوض، أو أنّه غير ظافر بالجلسات أصلاً في قطيعة كلّيّة غير مفهومة وغير مُبرّرة من الجانب الحكومي! وهو ما فرض عليه تحمّل مسؤولياته النقابية باتخاذ قراراته عبر هياكله، وحسب ما يضمنه ويكفله الدستور، ولعلّ أهمّها وآخرها قرار الدخول في تحرّكات احتجاجية جهوية تنديدا بسياسة المقاطعة التي تنتهجها حكومة الرئيس، ورفضًا لحملة الإيقافات والمحاكمات التي يتعرّض لها النقابيون، ودعوةً لتطبيق الاتفاقيات الممضاة سلفًا وستتوّج بتحرّك وطني في بطحاء محمّد علي بطحاء النضال.