وطني

تأبين المناضلة الفقيدة احلام بالحاج

الشعب نيوز/ متابعات: تولّى الأخ سامي الطاهري الأمين العام المساعد المسؤول عن الإعلام والنشر تأبين الأخت المناصلة أحلام بالحاج في مقبرة قربة بحضور جمع غفير من المناضلات والمناضلين من رفيقات ورفاق الفقيدة من نقابيين وحقوقيين وشخصيات وطنية وهذا نصّ التابين:
اسم المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشّغل أقف معكم في حضرة الرفيقة الحبيبة الدكتورة والأستاذة أحلام بالحاج لنودّعها بحرقة وألم،
نودّع إنسانة أعطت من وقتها وجهدها وعلْمها الكثير ونودّع أختا رقيقة لها في قلوبنا جميعا مكانة عزيزة ونودّع رفيقة مناضلة صلبة ثابتة صادقة،

 نودّع امرأة عظيمة.

تعوزني الكلمات وأنا أنعاك وأتهيّب ألاّ أوفَّيك حقَّك فقد كنت أرقى وأعلى وأسمى وأحلى من كلّ الكلمات..فلن تكفيني  البلاغة للتعبير عمّا يختلج في قلوبنا وما تراكم في ذاكرتنا منك وعنك..واعذريني إن لم تجدي الرّوح التي تعرفين، فقد أربكنا موتك.

أحلام بالحاج ابنة قربة تربة النضال والعلم والكدّ، درَست بتفوّق في جميع المراحل حتّى تخرّجت من كلّية الطب بتونس وتخصّصت في الطب النفسي للأطفال والمراهقين وخاضت غمار البحث والتحصيل وكانت لها إضافات ومجهودات ومساهمات في تأكيد أهمية الطب النفسي في بلادنا والطب النفسي للأطفال والمراهقين على وجه الخصوص وفي علاج بعض الأمراض المسكوت عنها كالتوحّد وأسّست " جمعية طب الأطفال والمراهقين STPEA " واجتهدت في عقد المؤتمرات والندوات التكوينية وتقديم الدروس ومتابعة بحوث طلبتها وتشكيل الجمعيات لتأكيد ضرورة إعطاء هذا الاختصاص مكانته في منظومة الصحة العمومية في تونس. فاشتغلت أستاذة بكلية الطب بتونس وكانت فخورة بانتمائها لهذه المنارة العلمية العريقة وكانت مدافعة شرسة على التدريس العمومي للطب فقاومت بضراوة كل محاولات الخوصصة لكليات الطب من أجل الحفاظ على جودة التدريس و العلاج وحقّ الجميع فيه. 

وقد أسّست قسم الطب النفسي للأطفال بمستشفى المنجي سليم وأدارته باقتدار وبأحدث الطرق العلمية، فكوّنت فريقا متكاملا وناجعا، متشبّعا بالأخلاق الطبية،  يسهر على علاج المرضى بأحدث الوسائل والمناهج ويعمل على حفظ كرامتهم.

 وكما أظهرت براعة أكاديمية في الطب عبر القدرة على التفكير والبحث والعمل والكفاءة فقد جسّمت أيضا وبلا منازع الروح الإنسانية بما تحمله من جمال للرّوح ومبادئ وقيم ومن مشاعر الحب والرأفة والتعاطف وخصال الصدق والأمانة ومن سلوك البذل والعطاء والالتزام وتسخير الجهد ومن الشجاعة والتفاؤل، فلم تكن تبخل عن تقديم المساعدة لكلّ من يطلبها ولكلّ واحد منّا تقريبا معها حادثة في ذلك، فكثّفت بذلك صفة الإنسانية التي يتوجّب أن يتحلّى بها الطبيب في زمن صارت فيه الصحّة سلعة والطبّ سوقا.

ولأنّ أحلام بالحاج كانت طبيبة فقد تسلّحت بصفات الطبيب الإنسانية لتخوض معارك أخرى كثيرة لا تقلّ ضراوة عن المعارك ضدّ المرض، فكانت أحلام الحقوقية وكانت أحلام النقابية وكانت أحلام السياسية المثقّفة.

ولأنّ تجربة أحلام في الجامعة التونسية كانت غنيّة، فقد أدركت فترة ثرية من تاريخ الحركة الطلابية بداية من سنة 1983 و1984 إذ انخرطت في النشاط السياسي ضمن المجموعات الطلاّبية اليسارية المتعدّدة التي كانت تخوض معارك ضدّ النظام وتساهم مع الحركة النقابية العمّالية في النضال ضدّ التسلّط والاستغلال وقد شاركت في كثير من التظاهرات الطلاّبية،

 ومن الواضح أنّ تكوينها السياسي في رحاب الجامعة التونسية قد شحنها فكريا ونضاليا لتدخل غمار الحياة النقابية والحقوقية من أبوابها الواسعة تماما كمعظم بنات وابناء جيلها من الطلاّب الذين أعدّتهم الجامعة العمومية التونسية إلى الحياة المتنوّعة أحسن إعداد.  

فانخرطت أحلام بالحاج طوعا في الاتحاد العام التونسي للشّغل منذ مباشرتها العمل وتولّت بعد سنوات قليلة المسؤولية النقابية من خلال العضوية في النقابة العامة للأطبّاء الجامعيين الاسشفائيين لثلاثة عقود حتّى تولّيها الكتابة العامّة لهذه النقابة إلى حدود وفاتها، فكانت مثالا للنقابية المؤمنة إيمانا عميقا بالدور الوطني والاجتماعي للاتحاد والملتزمة بلا تحفّظ بمبادئه والمنضبطة من دون خضوع لمقرّراته والناقدة لبعض مواقفه متى استوجب المقام نقدا والفاعلة ضمن جيل كامل من التقدّميين في التأثير في قراراته ومواقفه بما تحمله من رؤية استشرافية وطنية شاملة بعيدة عن النقابوية المطلبية والقطاعوية المقيتة وبما تملكه من قدرة على الإقناع وصبر على الجدال وأمل لا ينقطع في التغيير، وفي نفس الوقت فقد نجحت بذكاء فائق، وأنا شاهد على ذلك، هي ورفيقاتها ورفاقها في مكتب النقابة العامة وفي النقابات الأساسية في الجهات في تحقيق مكاسب معنوية ومادّية مهمّة للأطبّاء الجامعيين الاستشفائيين رغم عناء المفاوضات، وهي المريضة، ورغم عراقيل الداخل والخارج وظلّت إلى الأسابيع الأخيرة تتابع الملفّات العالقة بالرغم من تعمّد سلطة الإشراف في المدة السابقة اتباع سياسة سدّ باب الحوار وهي سياسة حكومية عامّة، فأنجزت الكثير مما لا يسع المجال لتعداده وبالتأكيد ستُوفّى حقّا فيه داخل هياكل الاتحاد.

  وقد ساهمت أحلام في ملتقيات نقابية لبلورة تصوّر الاتحاد حول إصلاح المنظومة الصحّية ومنظومة الحماية الاجتماعية وغيرها ممّا اتّصل باختصاصها أو باهتماماتها اللاجتماعية والاقتصادية والسياسية لذا نقول إنّنا قد خسرنا نقابية فذّة وسنفتقد عقلا آخر جدليا منهجيا واضحا ثاقبا.

ولأنّ أحلام بالحاج على ذلك القدر من الوعي والعطاء والعمل، فقد توسّع نشاطها إلى المجال الحقوقي والنَّسَوي وهي شابة لتنخرط في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وتناضل في صفوفها بنفس التصميم والالتزام الذي عُرفت بهما على امتداد عقود ولتتولّى رئاسة الجمعية لفترتين كانت لها فيها بصماتها من إشعاع وتوسّع وقدرة على التشبيك تحسب لها ولرفيقاتها في الجمعية بمختلف مسؤولياتهنّ.

كما توسّع نشاطها إلى النضال الديمقراطي اليومي ضدّ الاستبداد وأورد على سبيل الذكر لا الحصر أنها ساهمت مباشرة في تجربة مجلّة قوس الكرامة ولاقت جرّاء ذلك التضييق والمحاصرة والمداهمات ولكنّها لم تضعف ولم ترتبك ولم تتراجع..كما كانت أحلام بالحاج من أولى المتحمّسات للوقوف مع انتفاضة  الحوض المنجمي وكانت عضوة لجنة الدفاع المساجين.

أحبّت فلسطين وصدحت بصوتها في كلّ المحافل الوطنية والدولية التي شاركت فيها دفاعا عن حقّ الشعب الفلسطيني في التحرّر كما ناصرت قضايا التحرّر العالمي وناهضت العنصرية والتمييز والاستغلال.

إنه لمن الواضح أنّ لأحلام مسارا نضاليا ثريا سيتولّى ورفيقاتنا رفاقنا التوسّع فيه، ولكن لا يمكن لي أن أنهي من دون التعرّض إلى أمرين هامّين:

الأوّل أنّ أحلام بالحاج تحوز على حبّ الناس وعلى احترام كلّ من عرفها أو تعامل معها، لأنّها كانت ودودة لطيفة رقيقة وكانت صاحبة الابتسامة الساحرة الدائمة التي تعلو محيّاها وتطفح من عينيها الصافيتين حتّى في أحلك الفترات تقاوم بها الرداءة والهموم والوجع والإحباط، فتشعرك سريعا بالطمأنينة والراحة، ابتسامتها سلاحُها وسحرُ روحها الإنسانية الرفيعة، فبتلك الابتسامة الجميلة والصوت الهادئ لكن الصارم كانت تقنعك بعبور الألغام معها فتنصاع ثقة فيها وحبّا لها.  

الثاني أنّ أحلام امرأة عمول لاتكل ولا تملّ:  تدرس وتكتب وتدرّس وتعالج وتؤطّر وتبحث وتقيّم وتعقد الاجتماعات وتناقش وتجادل وتفاوض وتعدّ الملفّات وتتنقّل بين الجهات وتتّصل بالجميع وترعى الابن والبنت والأمّ والأهل وتجمع الأحبّة..ولا تتعب..

إنّها امرأة، سيّدة من سيّدات الكون.   

أتعبها الجسد وقاومت المرض بعناد لعشرين سنة تقريبا ولكنها استطاعت فيها أن تحقّق بعضا من أحلامها، أحلامنا..

كانت مصرّة على أنّه مازال لها ما تعمل في هذه الحياة خاصّة أنّ بلادنا تمرّ بأحلك فتراتها وقد كانت في كلّ مناسبة تبدي تخوّفاتها وتعرب عن قلقها الشديد لحالة الغموض التي نعيشها ولا تتردّد في وصف ما يحدث اليوم بالعبث ولا تتوقّف عن حثّنا في الاتحاد لفعل شيء ما ينقذ البلاد.

نودّعك أحلام بالحاج ولكن لن نودع أحلامك وتوقك للحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.

لن نودع معك انتماءنا اليساري والعمّالي 

نعاهدك صادقين أنّ للحلم بقية، بقية في يوسف ومريم وبقية في رفيقاتك ورفاقك ترين النصر بعيونهم وعيونهنّ


وداعا حلّومة الغالية

كنت توحّدين ولا تفرّقين

كنت تجمّعين ولا تشتّتين

رابط الفيديو:   https://www.youtube.com/watch?v=AmybqIiAWIE