آراء حرة

وداعا صالح الحمزاوي.....وهل نُطيقُ وداعا ايها الرجل ؟

عُدْتُ للتوّ من منزل الاستاذ المعلم والرفيق والصديق صالح الحمزاوي بعد أن ألقيْتُ عليه نظرة الوداع الاخير.

عدتُ بعد أن عادتْ بي الذاكرة الى ما شهده هذا المنزل في فترة الدكتاتورية من أحداث واجتماعات وتأسيس لجان وجمعيات غير معترف بها واضرابات جوع وتحرير بيانات وعرائض ولقاءات مع مناضلات ومناضلين وصحفيات وصحفيين تونسيين وأجانب .

عدتُ بعد ان عادتْ بي الذاكرة للسنوات التي تلازمتُ فيها مع هذا العالم الجليل ملازمة التلميذ لاستاذه وترافقتُ فيها مع هذا المناضل المخلص مرافقة الرفيق لرفيقه . سنوات خبرتُ فيها طيب معدنه وحسن سريرته وعلمه الرفيع مع تواضعه الجمّ .

ما أقسى لحظة الوداع .

وما أقسى أن يفارقنا صاحب ذلك القلب الكبير الطيب الذي لم يتوقف يوما عن النبض حبّا لتونس وشعبها ولكل الكادحين في العالم .

ولد صالح الحمزاوي سنة 1940 في فوسانة من ولاية القصرين. وكانت تلك المنطقة تشكو منذ فترة الاحتلال الفرنسي التهميش والتنكيل. وأذكرُ أنه كان يُحدّثني بكل حزن عمّا كابده مع عائلته من فقر وحرمان وعمّا تَشاركَ فيه مع الاطفال من أقرانه من أكل لنبتة "التلغودة" من فرط الجوع.

ولكنّ هذا الوضع القاسي لم يحُلْ دون مثابرة الطفل والشاب صالح الحمزاوي على تحصيل العلم والنبوغ فيه الى أن حاز الجزء الاول والثاني من الباكالوريا ثم الى أن يواصل تعليمه العالي في فرنسا في مادتي الفلسفة ثمّ علم الاجتماع . تتلمذ الطالب صالح الحمزاوي على العلامة الاستاذ جاك بيرك الذي أشرف على رسالته لدكتورا المرحلة الثالثة في علم الاجتماع ثم قدّم اطروحة دكتورا الدولة بعنوان :" الممارسة النقابية و السلطة السياسية : من أجل مقاربة اجتماعية للاطارات النقابية ، مثال تونس" .

والاستاذ صالح الحمزاوي نموذج نادر في تونس للمثقّف الذي لم ينفصل عن جذوره الطبقية ، ولم يفصل يوما بين اختصاصه الاكاديمي كعالم اجتماع و بين انخراطه في النضال الاجتماعي و السياسي، ولم تقدر الاغراءات بالمناصب السياسية والوزارية أن تغريه لكي يتخلّى عن مواقفه ومرجعيته اليسارية التقدمية مثلما حصل مع زملاء عديدين له في الدراسة والتدريس الجامعي أمثال عبد الباقي الهرماسي.

كان من المناضلين المناهضين للاستبداد منذ العهد البورقيبي حيث انخرط في الحركة النقابية وكان من مؤسسي وقياديي نقابة التعليم العالي سنة 1972. و في زمن منع حرية التنظم و الاجتماع كان منزله المحاصر و المراقب دوما من البوليس السياسي قبلة لاجتماعات النقابيين غير الموقوفين اثر الخميس الاسود 26 جانفي 1978 والحملة القمعية التي عقبت اول اضراب عام للطبقة العاملة التونسية.

و في فترة حكم زين العابدين بن علي ، كان منزله قبلة للرابطيين اثر تجميد بن علي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وغلق مقرّها. و في منزله شنّ مساجين سياسيون سابقون اضرابات جوع و تحركات احتجاجية ضدّ بن علي كما كان منزله مقرّ عديد لجان الدفاع عن مناضلي اليسار الفارّين من بوليس بن علي.

رحل بن علي ، ولم يطلب صالح الحمزاوي جزاء ولا شكورا ولا منصبا ولا تعويضا عن مناهضته للاستبداد والاستغلال ، وعمّا تعرّض له طيلة عقود من محاصرة منزله وتطويقه ليلا نهارا ، ومن مراقبة وهرسلة وتعنيف وايقاف.

صورتك في الذاكرة هي صورة الشجاع الصامد الوفيّ لشعبه ولمبادئه الاشتراكية.

فكيف نقول وداعا ؟

مثلك لا يُقال له وداعا أيها الرجل ....

مثلك تُنْثَرُ عليه الورود حبا وتقديرا واعترافا بالجميل.

10 أوت 2021 / شكري لطيف