محاكمات النقابيين - سوسة 048: محامون بالعشرات يبدعون في الدفاع عن النقابيين ويكشفون الطابع السياسي للقضية
نأتي في سلسلة وثائقنا عن محاكمة نقابيي سوسة سنة 1978 الى حلقات في غاية الأهمية من تلك المحاكمة وهي مرافعات المحامين. لقد كانت باختصار شديد رائعة من عدة جوانب، الأول ان المحامين كانوا بالعشرات، ثانيا ان جلهم بل كلهم ترافعوا مجانا، ثالثا وهو الأهم انهم فككوا القضية وكشفوا خفاياها السياسية وأهدافها غير المعلنة وزادوا فأطنبوا فعلا في الشروح القانونية، رابعا انهم حولوها الى محاكمة بأتم معنى الكلمة للسلطة الحاكمة آنذاك وخاصة لبعض أطرافها الذين كانوا في سباق محموم مع الزمن من اجل خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة.
كانوا كثيرين فعلا وقد استرجعنا مرافعاتهم. وليعذرنا من قد نكون نسينا مرافعته أو اهملناها فالعتب على الوضع الذي كانت عليه وثائقنا. وما نشرُنا بعد 43 سنة لما توفر عندنا من مرافعات الا دليل على تقديرنا الكبير للمحامين واعتراف لهم بجميل سوف لن ننساه لهم ولن تنساهم لهم أجيال النقابيين المتعاقبة ومن المواطنين ومن الاسر الذين علقوا عليهم كل الآمال في خلاص أبنائهم من كابوس محاكمة ظالمة.
أخترنا ان نبدأ بنشر مرافعة المحامي البشير خنتوش المعروف بقربه من دوائر الحكم وقتئذ ويصح عليه قول شهد شاهد من أهلها حتى انه ارتقى بعد ذلك بسنوات الى الديون السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم كما كانت زوجته وزيرة للتجهيز.
يقول المحامي البشير خنتوش :
أعترف بصراحة تامة انني منذ تعهدت بالدفاع في هذه القضية أصبحت اعيش ليس فقط كلسان دفاع بل كمواطن، ازمة نفسانية لأنني لم اجد اي شيء من هذه القضية ما يمكن ان يستوجب الدفاع عنه، فالقضية تافهة ولا يمكن ان تشكل موضوعا للدفاع وعلى كل فانا لما ارافع فيها اشعر كما يشعر كل من هو موجود بالقاعة بخشوع رهيب وقشعريرة في خلايا جسمي، خاصة حينما تتراءى لي ارواح الشهداء الذين سقطوا يوم 26 جانفي الماضي، لا من اجل الدفاع عن حرمة وكرامة الوطن، بل سقطوا تحت رصاص اخوانهم التونسيين وكذلك اشعر بحسرة ومرارة حينما اتخيل روح الفقيد حسين الكوكي (1) وهي ترفرف من حوالينا (طلب الرئيس من المحامي ان يلتزم، في مرافعته بالملف الذي بين يديه)
وواصل المحامي قائلا:
وانه لمن نكد الدنيا انه في الوقت الذي كانت فيه تونس تحتفل بعيد الاستقلال، كان هؤلاء يحتفلون به في السجن وفي الوقت الذي كانت فيه تونس تحتفل بعيد الشهداء الذين ماتوا من اجل ان يتحرر الوطن كان هؤلاء قابعين في الزنزانات وفي الوقت الذي كانت فيه تونس تحتفل بعيد الشغل الذي هو عيد الشغالين في جميع انحاء العالم (والكل يعلم ان البناء والثورات تبنى على سواعد الشغالين) كان هؤلاء يحتفلون بهذا العيد المقدس في السجن كما احتفلوا وهم في السجن باعياد الجمهورية وميلاد الرئيس و5 اوت.
انني متألم شديد الألم، من كل ذلك، ولم يكن في امكاني ان لا اتعرض له واني لما كلفت بهذه القضية قلت رباه ! كيف سأرافع عن متهمين كنت اعرف انهم كانوا مناضلين سواء في الحزب او في النقابات وقلت ايضا عندما اطلقت السلط عنان الحملة الاعلامية ضد الاتحاد، كيف سأدافع عن هؤلاء الذين سموا بـ (المتآمرين) خاصة وأنا لا اؤمن بالعنف في الجهاد السياسي، وقد سمعت الكثير وسالت بحار من الحبر على اطنان من الورق، ووقع نشر الكتاب الازرق الذي ترجم الى الفرنسية والانقليزية وربما الى الالمانية أيضا كما قيل ان القضية تتعلق بالأمن الداخلي وحتى الامن الخارجي (على اساس ان عاشور قام باتصالات مع رؤساء دول ومع المصمودي(2) ومع غيره)، ثم قيل الكثير عن الاسلحة فلست ادري والحال تلك ماذا بقي للسان الدفاع ان يقول..؟
اننا كلسان دفاع ديدننا رسالة الدفاع المقدسة، ليس دورنا من باب «انصر اخاك ظالما او مظلوما»، فنحن بشر نطمح ليأخذ كل ذي حق حقه ونطمح لتحقيق الخير والاستقرار لهذه البلاد فإذا تحمسنا ورفعنا صوتنا عاليا فإنما لمساعدة العدالة على اجلاء الحقائق.
أين القضية الام؟
ولقد اندهشت ومازلت مندهشا كيف ان العدالة تعهدت بهذه القضية في هذه الايام والحال انها متفرعة عن قضية ام مازال لم يتم فيها البحث في العاصمة إذ ان المنوبين في سوسة سلطت عليهم نفس التهم تقريبا المسلطة على القيادة النقابية فمن العجب على هذا الاساس، ان يحاكموا قبل ان يبت في قضية العاصمة وعلى كل فقد طالبنا على الاقل بسماع شهادة عاشور (3) وبعض رفاقه لنتمكن من تقييم هذه القضية (قضية سوسة) التقييم الذي يجب في سبيل ان يكون سير العدالة اسلم. ولقد قيل ايضا ان من اسباب حوادث جانفي الازمة التي قامت بين الاتحاد والحزب (4) فاذا اردنا اذن درس هذه القضية بكل امانة لا بد ايضا من ان نستمع الى شهود اخرين ممن كانوا مسؤولين في الحزب والدولة امثال الطاهر بلخوجة (5) والمنصف بلحاج عمر (6) ومحمد الناصر (7) ومحمد المصمودي (8) وحتى مدير الحزب الحالي (9) وانا اعتقد ان المحكمة لن تكون على بينة تامة ان هي لم تستمع الى تصريحات هؤلاء وقد عرفنا البعض منها، ولا ندري هل يمكننا التعرض إليها ام لا وهنا الفت نظر جناب المحكمة ان طلبنا بسماع الشهود لم تقع الاجابة عليه اذ كيف يمكن النظر في القضية بشكل جدي وواقعي بينما الملف ليس كاملا ورغم هذا فمازلنا متمسكين بطلبنا لان ضمائرنا سوف لن تكون مرتاحة ازاء ملف غير جاهز تماما.
ولكن ما دمنا في هذا الوضع فاني مضطر ان ارافع على ما هو موجود في الملف، فماذا وجدنا فيه؟
وجدنا مجموعة ضخمة من المتهمين المعروف عنهم انهم لم يكونوا منضمين الى منظمات سرية هدفها الاعتداء على امن الدولة الداخلي او الخارجي، اننا تعودنا منذ اعوام طويلة ان نشاهد في اقفاص الاتهام مجموعات من الطلبة او من اناس ذوي اتجاهات او افكار سياسية معينة واليوم نشاهد مجموعة تمثل اصناف الشعب بأكمله تقريبا (عمال واساتذة وفنيون وطلبة وتلاميذ وكذلك من ينتمون الى الرعيل الاول والى الرعيل الرابع او الخامس او حتى ممن لم يبدأوا بعد في المساهمة في عملية التنمية)..
وعلى هذا الاساس فانه لمن عجب العجائب ان يتهم هؤلاء بالتآمر على امن الدولة ولكن إذا تصفحنا قرار دائرة الاتهام سوف نقرأ اعترافا ضمنيا ان التهم المنسوبة للمنوبين باطلة فهذا القرار افاد بنفسه ان المتهمين كانوا يوم الاضراب محاصرين بدار الاتحاد الى ان ألقي عليهم القبض من طرف الشرطة، فكيف اذن اتهامهم بالتظاهر او بإحداث الاضرار؟ وقال هذا القرار ان المؤسسات لم تتعطل وإذا كان الامر كذلك فإننا نتساءل إذن لماذا لم يطلق سراح المنوبين الذين كانوا محاصرين بدار الاتحاد ولم يقوموا لا بإضراب ولا بإحداث الاضرار؟
غير انه لقائل ان يقول ان المحاصرين يمكن ان يضربوا عبر النوافذ والابواب بالقوارير او بالحجارة او بالعصي وما جاء في المحجوز الا انه لم يثبت شيء من هذا. وعلى ذكر المحجوز فإننا بصرف النظر عن انه لم يقع بصورة قانونية، كنا ابان الاحداث نتصور ان الاسلحة التي وقع الحديث عنها وردت من الخارج وأنها من الحجم الثقيل الذي يفزع ويرعب فإذا بنا اليوم نجد أنفسنا امام العصي وكأنها كانت بنادق والسلاسل وكأنها كانت دبابات والسيوف وكأنها كانت رشاشات، وعلى كل فلا بد من السؤال متى وقع حجز المحجوز؟ قع ذلك بعد أشهر من الاحداث فهل ان تفتيش دار الاتحاد كان يستوجب كل هذه المدة ومن جهة اخرى هل ان الاسلحة النارية المحجوزة كانت صالحة للاستعمال؟ انه لمن الامور المضحكات المبكيات ان نشاهد مثل هذا المحجوز وان تقع ادانة المتهمين على اساسه انه سيشكل فضيحة بالنسبة للرأي العام الداخلي والخارجي..
وطبعا ليس معقولا كذلك ان المتهمين كانوا يشكلون خطرا على الدولة ان الدولة لا بأس عليها والمسؤولون في تونس لا بأس عليهم فيا ليت المتهمين كانوا مسؤولين او كانوا سراق او قطاع طرق لكانوا الان في خير ولكانوا يتمتعون بالحرية المطلقة ثم انه لا مجال ان نقول مثل ما قالت النيابة ان قيادة الاتحاد كانت تسعى الى كسب قيادة الامة لان عاشور معروف ولم يكن يوما يرغب في ان يكون حتى وزيرا. انه كان مخلصا للاتحاد واقسم على نفسه الا يتركه وكان الرئيس نفسه يعتبره ابنا مخلصا اذ قال فيه ذات مرة (انه ابني الوفي ومناضل كافح وأخلص لبلاده).
التعذيب قرار من السلطة السياسية
وبعد ان تحدث الاستاذ خنتوش مطولا عن اساليب الضغط والاكراه والتعذيب التي سلطت على المتهمين لاحظ ان اللوم بالنسبة لهذه الاساليب لا يلقى على الشرطة بل يجب ان يلقى على السلطة السياسية.
وتحدث الاستاذ خنتوش عن مضخمات الصوت وتساءل عن الخطب التي ألقيت بواسطتها فاذا كان الامر يتعلق بالتحريض على الاضراب وجب احالة المتهمين من اجل الاضراب غير الشرعي مثلا او من اجل الاضراب السياسي لكن ماهي السياسة قبل كل شيء؟ يقول المرحوم فرحات حشاد ان السياسة في كل شيء وهي تأتيك دون ان تبحث عنها فهي اذن حديث عن الاسعار والاجور والاضرابات وانا اذكر ان الحكومة حددت سعر بيع البيض ولكن الان اصبحت تسعيرة البيض محررة فاين احترام العقد الاجتماعي من هذا؟ لقد تم الاتفاق على امور مضبوطة فما بال أحد الاطراف يتراجع اليوم فيما اتفق عليه وإذا كانت الحكومة تنادي بالسلم الاجتماعية فمن باب اولى واحرى ان تكون هي البادئة باحترامها وتطبيق بنودها..
كما تحدث المحامي عن الاضرابات وطالب بإحضار السادة محمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية ومنصف بلحاج عمر والحبيب عاشور للتحدث امام المحكمة عن العقد الاجتماعي الذي ينص على المراجعة كلما ارتفعت الاسعار، الا ان المسألة تعدت هذا وذهبت الى محاولة الاغتيال وغيرها من الاحداث.
ان الموضوع سياسي بالدرجة الاولى وارى ان لكم الحق في طرح الاسئلة السياسية لان القضية سياسية والخلاف سياسي لكن من هو المسؤول؟ يبدو حسب قرار دائرة الاتهام انه الاتحاد لكن لي ان اسرد لكم بعض مواقف الاتحاد، فقد كرّم الحبيب عاشور عاملة تونسية فاق انتاجها انتاج عاملة المانية والاتحاد يرحب بتعدد النقابات يرفض الفوضى (قصاصات من جريدة الشعب) ولماذا استقال الحبيب عاشور من الديوان السياسي؟ لعله مكره لا بطل وما من شك في انه كان متأثرا بوضعيته.
ثم تعرض المحامي الى احداث قصر هلال وقال ان المسؤولية بعيدة عن النقابيين وعن استقالة الحبيب عاشور وخير الدين الصالحي (10) من الحزب. ان الاتحاد تعرض الى اعتداءات من الميليشيا، ومن اغرب ما شاهدناه هذا التقرير:
«نحن محسن غميدان (الكاتب العام للشباب الدستوري) ضبطنا المهندس الاول يمشي ملاصقا للحائط ثم دخل الى حانوت كسكروت ورأيناه يتحدث مع صاحبه وفهمنا انه يحثه على غلق محله ولما دخل العمارة التي يسكنها القينا عليه القبض ونقدمه لكم».
فاين أصبحنا واين حرمة القضاء الذي حكم على هذا المهندس الاول، وهناك شهادة شهادة اخرى على ان الاتحاد تعرض للاعتداء وهي صادرة عن محمد بن سعد ومحمد الراجحي اعضاء القوى العمالية (11) الذين ذكروا ان احد المسؤولين بالحزب دعاهم الى المطالبة بعقد مؤتمر خارق للعادة وارسال برقيات الى الرئيس فالى متى نبقى نغالط رئيس الدولة واين التهم من كل هذا؟
وتعرض المحامي في خاتمة مرافعته الى مقتطفات من خطاب رئيس الدولة امام المجلس الاعلى للقضاء سنة 1965، وطلب الحكم بالبراءة وترك السبيل على كل منوبيه.
احالات:
(1) حسين الكوكي مناضل نقابي من قطاع البنوك في سوسة توفي يوم 15 فيفري 1978 نتيجة التعذيب الذي تعرض له في محلات الشرطة.
(2) محمد المصمودي وزير سابق من أصدقاء الحبيب عاشور. كان آنذاك مغضوبا عليه ومقيما في الخارج بين فرنسا وليبيا والسعودية.
(3) الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد واحد مؤسسيه وهي متهم في قضية مشابهة من انظار محكمة امن الدولة في العاصمة.
(4) الحزب الاشتراكي الدستوري وريث الحزب الحر الدستوري واب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي وقع حله في مارس 2011.
(5) الطاهر بلخوجة وزير الداخلية آنذاك، أقيل على أساس اعتراضه على نهج التصلب الذي بدأ يبرز في السلطة مواجهة للاتحاد.
(6) المنصف بلحاج عمر وزير الوظيفة العمومية آنذاك وقد استقال تضامنا مع زميله الطاهر بلخوجه واعتراضه على نهج التصلب الذي بدأ يبرز في السلطة مواجهة للاتحاد.
(7) محمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك وقد استقال تضامنا مع زميله الطاهر بلخوجه واعتراضه على نهج التصلب الذي بدأ يبرز في السلطة مواجهة للاتحاد.
(8) محمد المصمودي إحالة سابقة.
(9) محمد الصياح وينسب له أنه يقف وراء ما سمي بالميليشيا الحزبية التي قام انفارها بالتخريب والنهب ونسب الأفعال للنقابيين.
(10) خيرالدين الصالحي الأمين العام المساعد للاتحاد وقد استقال من عضوية اللجنة المركزية للحزب.
(11) القوى العمالية منظمة نقابية موازية أنشأها أنصار الحزب لمضايقة الاتحاد.