قراءة في حركة 25 جويلية التصحيحية (3) : من رحم اليأس يولد الأمل
بقلم سالم الحداد / باحث ومؤرخ
يواصل الأستاذ سالم الحداد التعمق في قراءته للاحداث حيث يرى أن تونس مرت خلال عشر سنوات بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة ومتصاعدة انحرفت بمسار الثورة فأفضت إلى حركة 25 جويلية التصحيحية.
تُرى فيم تتمثل سردية هذه الحركة؟
VIــ من رحم اليأس يولد الأمل
أولا ــ حركة التصحيح : 25 جويلية
في اللحظة التي بدأ فيها اليأس يسيطر على الشعب، برزت مجموعات من الشباب لم تعرف كابوس الخوف مع ذكرى السنة العاشرة للثورة وحاولت أن تستنسخ أحداث 14جانفي 2011 فحُملت على أنها مجموعات مشاغبة وجوبهت بعنف، كما ظهرت تحركات شبابية جهوية متفرقة من أجل التشغيل وكانت كلها تؤكّد أن مشعل الثورة لم ينطفئ، إلى أن برز حراك 25 جويلية أطرته مجموعة أطلقت عل نفسها " المجلس الأعلى للشباب ".أصدر بيانا مما ومما جاء فيه <<نعلم أبناء شعبنا العظيم أن حراك 25 جويلية حراك شعبي سلمي مفتوح لأيام ،وربما لأسابيع ،حتى سقوط المنظومة ويتسلّم جيشنا مقرات السيادة بالمعتمديات والولايات ...كما ندعو اللجان الشعبية لتسريع التشكيل التلقائي في كل حي ومعتمدية لحماية الممتلكات العامة والخاصة من المندسين واقتيادهم للجيش . >>
هذا البيان يعكس إلى حد بعيد حرص هذا الفريق على استمرارية الحراك وسلميته ويعتبرهما مسؤولية الجميع، وهو بعيد عن الحقد الإيديولوجي ويريد ان يحشد أكثر ما يمكن من الجماهير دون السقوط في ردود الفعل . خرج الشباب التونسي في مسيرات حاشدة في كامل الجمهورية شملت المناطق الساحلية التي تُعتبر محظوظة ومترفة قياسا بمناطق الجنوب والوسط. وقد أسهمت مسألة التعويضات المالية ــ التي تطالب بها النهضة لضحايا الاستبداد واغلبهم من أبناء النهضة والتي تقدر بحوالي 3000 مليارــ في تأجيج الغضب ضد الأغلبية البرلمانية التي تطالب بالتعويضات في الوقت الذي عجزت عن توفير الحاجيات الأولية. من الدواء والغذاء للشعب.
وتعتبر هذه المسيرات سلمية نسبيا لأنها لم تستهدف المؤسسات العامة ولا الخاصة لكنها نالت من مقرات النهضة دون غيرها من الأحزاب .
ثانيا ــ إكراهات رئيس الجمهورية
كان قيس سعيد بين خيارين أحلاهما مرّ:
1ـــ الاستسلام للواقع المتردي ومسايرة الأحزاب السياسية في صراعها من أجل الغنيمة والتموقع وترك الشعب يعيش مأساة الجوع والمرض والتمسك بشكلانية النص الدستوري للنظام البرلماني
2ـ المبادرة بالتغيير وتصحيح المسار،ولم تكن هذه المبادرة سهلة فهي تتطلب
أــ اجتهادا في قراءة النص الدستوري
ب ــ إقناع القوات الحاملة للسلاح بقبول المغامرة
ج ــ توفّر مشروعية شعبية للتحرك
فاختار المغامرة
لا أعتقد أن هناك خيارا ثالثا كان لرئيس الجمهورية أن ينتهجه أمام المأساة التي تعيشها تونس.
صحيح أن هذا الخيار صعب وقد تكون له تداعيات مخيفة لكن هناك ثلاثة عوامل مطمئنة على أن المسار الديمقراطي لا يعود للوراء
ــ أن الكثير من التخوفات التي ظهرت مع الثورة لم تصمد مع حركة التاريخ اللولبية المتصاعدة فقد سقطت مقولة<< أن المرأة مكانها البيت>> مع الإسلام السياسي ومقولة عودة الاستبداد السياسي مع النداء سليل العائلة الدستورية مع الثورة المضادة
ــ صلابة البنية الهيكلية للمجتمع التونسي فقد توفرت لديه منذ عقود منظومة مجتعية من المنظمات والأحزاب لا تسمح بعودة مجتمع الرعية الذي يقوده الحزب الواحد والزعيم الأوحد
ــ إن قيس سعيد ليس مسقطا على الثورة فقد عاش كل مراحلها وساهم في أنشطتها وعرف كل منعرجاتها وأزقتها وتجرّع مرارة انحرافات الفاعلين فيها
وهو يطرح على نفسه تصحيح مسارها
هذه العوامل تجعل الشعب مرتاحا إلى أن الثورة ستواصل مسيرتها التي لن تتوقف مع قيس سعيد. تلك هي مسيرة الثورات الواعدة في التاريخ
ثالثا ـــ قصر قرطاج يأخذ زمام المبادرة
انطلقت المسيرات الشعبية من الأحد 25 جويلية 2021 صباحا استجابة للنداء الذي أطلقه المجلس الأعلى للشباب الذي لم يعرف عنه الشعب الشيء الكثير سوى لأنه سام في فوز قيس سعيد وهو نفس اليوم الذي حددته النهضة لاستجابة حكومة المشيشي للاستجابة لمشروع جبر الضرر الذي أعدته العدالة الانتقالية والذي يستفيد منه ــ أساسا ــ أبناء النهضة .
ما لبثت التحركات الشعبية تتصاعد وبلغت أوجها على الساعة العاشرة ليلا. إذاك أخذ رئيس الجمهورية زمام المبادرة وأعلن جملة من الإجراءات الاستثنائية استنادا إلى الفصل 80 من الدستور:
1ـ حل الحكومة لفسح المجال لتكوين حكومة جديدة
2 ـ تجميد البرلمان دون اللجوء لحله
3ــ رفع الحصانة عن أعضائه
4 ــ تولي النيابة العمومية للقضاء
هذه الإجراءات ــ التي صدرت العاشرة ــ شجّعت المواطنين على الخروج للشوارع بكثافة ليلا رافعة شعارات مناوئة للنهضة.والسؤال هو: ما سرّ هذا التزامن أو الترافق بين الحراك الشعبي ومبادرة قيس سعيد؟
لا أعتقد أن ذلك تمّ بمحض الصدفة فقد جرت الأحداث ضمن خطة معدة سلفا بشكل منظم أعدتها أطراف فاعلة على الساحة الوطنية ،كان قيس سعيد واسطة العقد بينها: شبابية وعسكرية وأمنية وسياسية ، خططت لها بروية، مستثمرة الغضب الجماهيري الذي ما لبث يتصاعد ضد الحكومة ومخدتها الخادعة :
أــ المجلس الأعلى للشباب:
كانت مهمته حشد الجماهير في الشارع حتى تشرعن الإجراءات الاستثنائية التي أعدها الرئيس استنادا إلى الفصل 80 من الدستور،فأصدربيانا أمضى عليه ثامر بديدة ورفع شعارات بسيطة موجهة للمتظاهرين:"احتج لكن لا لخراب بلادك"، الرخ لا..
ب ــ القوات المسلحة :
لا أعتقد ان دورها هو مجرد تنفيذ الأوامر، نعم هي تنفّذ تعليمات رئيس الدولة لكنها أيضا تصغي لصيحات الشعب وتجسّ نبضه وتحترم الدستور وتهندس التحركات . فمن الصعب أن يكون قيس سعيد أعطاها الأوامر على الساعة العاشرة ليلا دون إعداد مسبق، فمن المنطقي أن تكون عنصرا فاعلا في الإعداد والتنفيذ لذلك سهرت على انجاز مهمتها بنعومة مما جنب البلاد التداعيات السلبية للانقلابات .
وهي عملية شبيهة بما حدث في مصر سنة 2013 من حيث الشرعية الجماهيرية لكنها بعيدة عنها من حيث الأطراف الفاعلة والتداعيات ، فقيس سعيد ليس مسقطا على الثورة فهو يتمتع بشرعية شعبية واسعة كما أن تداعيات الحركة لم تخلّف إلا بعض الجراح النفسية لدى الإسلام السياسي والثورة المضادة اللذين تغوّلا.
VIIــ النتائج المباشرة لحركة التصحيح
أولا ــ استرجاع الدولة من الدويلات
لم يكن من حق رئيس الدولة غير الإشراف على وزارتيْ الدفاع والخارجية لكنه حاول أن يستثمر الغموض الوارد في النص الدستوري الذي يعتبر رئيس الدولة عو القائد الأعلى الحاملة للسلاح فتصدى له البرلمان حاصرا مهمته في الجيش. مع 25جويلية تمكّن من أن يسترجع عدة مواقع في الدولة من أهمها الداخلية والقضاء وكانت النهضة منذ بداية الثورة حريصة على الإشراف عليهما
لإخفاء جرائم ارتكبتها أو للتوقي من جرائم قد تحاك ضدها .كما تمكن من التحكم في وزارة النقل والمواصلات التي تمتلك أسرار الدولة والتي كانت تحت اشراف انور النهضاوي معروف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .كما أن رفع الحصانة البرلمانية مكّن العدالة من أن تأخذ مجراها وتتابع العديد من ملفات الفساد المحتمية بالحصانة البرلمانية
ثانيا ــ عودة ثقة الشعب بالدولة
اعتبر الرأي العام ـ عموماـ أن ما حدث هو عملية إنقاذ من الأزمة الشاملة التي تعيشها تونس وتّحمّل المسؤولية للثلاثي الحاكم وخاصة للنهضة التي كانت مركز الثقل في السلطة فبإزاحة حكومة المشيشي وحزامها بدأت المشاكل المستعصية تأخذ طريقها إلى الحل فقد تمكّن رئيس الدولة من جلب اللقاحات وتنظيم حملات للوقاية تطوع لإنجاحها المجتمع المدني وبدا رئيس الدولة يقوم بزيارات ميدانية ويطرح العديد من القضايا الملحة :منها ضعف المقدرة الشرائية الناتجة عن الاحتكار ، سوء التوزيع . الفساد المالي والإداري، انحراف القضاء بهذه المتابعة اليومية لقضايا المجتمع الملحة بدأ الشعب يثق بالدولة كجهاز رقايي مسؤول .
ثالثا ــ قلق عفوي: قيس سعيد نخشى منه ونخشى عليه
1ـــ قيس سعيد نخشى منه
بعد 25 جويلية بدأت الأزمات المجتمعية: الصحية ، الاجتماعية والاقتصادية ، تنفرج فصار قيس سعيد يتمتع شعبية كاسحة ــ بلغت حوالي 92 % حسب بعض عمليات سبر الآراء وهو ما لم يحظ به أي زعيم سياسي ــ كانت لها انعكاسات متباينة، فبقدر ما رحب بها الشعب لأنها ساعدت تونس على الخروج من المأزق، فإن الفعاليات الوطنية عموما عبرت عن مخاوفها من عودة ظاهرة الزعامة التي تعتبر أم الكوارث في السياسة التونسية فبورقيبة استغل زعامته ليتحول إلى طاغية يسفك الدماء بغزارة ويتوخى : المقايضة مع الخارج وعملقة نفسه وتقزيم كل الفعاليات في الداخل ومن أهم تداعياتها: مصادرة إرادة الشعب والأمية السياسية كذلك تحول ابن علي" صاحب المعجزة الاقتصادية" إلى قامع للحريات بكل اشكالها وناشرا للفساد
2ـــ قيس سعيد نخشى عليه
يعتبر قيس سعيد نموذجا للسياسي الوطني ،فهو مربّ مثقف نظيف ملمّ بالقوانين المحلية والدولية، لا يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة ولا ينقل المقدس للمدنس ، خاض صراعا عنيفا مع الأحزاب الحاكمة التي لها ارتباطات مع الفساد في الداخل ومصالح مع الدول النافذة في الخارج . أقدم على مغامرة صعبة مستندا إلى القوات الحاملة للسلاح بعد أن أوصلت الأحزاب الحاكمة تونس إلى حافة الهاوية . لم تكن نتائج المغامرة مضمونة فالحزام السياسي الحكومي ــ رغم تقلص إشعاعه ــ مازال له حضور شعبي ومازال يحظى بدعم إقليمي ودولي وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية . فالشعب التونسي عموما كان ينتظر مبادرة من الرئيس تضع حدا لهذا التردي حيث بدأ الحديث عن الفصل 80 وتسربت أنباء من القصر على أنه عازم على تفعيله.،لكن التساؤل: كان متى وكيف وهل توفرت شروط النجاح وكان الرأي العام يخشى تداعياتها السلبية ãعلى مسار الثورة وعلى قيس سعيد فقوى الردة لها قدرة على حبك المؤامرات وتدبير الاغتيالات وهذا ما اتضح عمليا من خلال الذئب المنفرد المتسلل من ليبيا اومن خلال المعلومات التي ادلى بها الإعلامي سعيد الخزامي أو البوليس الدولي أوزير الداخلية الليبي بقطع النظر عن تصريحات الرئيس.
ملاحظة هامة : الآراء الواردة في هذا المقال لا تلزم الا صاحبها