مذكرات العميد منصور الشفي (25): أطوار عودة احمد التليلي من منفاه ووفاته في باريس
الشعب نيوز/ وثائقي - بعد بضعة أيام من مرض الحبيب بورقيبة، أعلمني الحبيب عاشور بأن أحمد التليلي سيرجع الى تونس في الايام القريبة الموالية. وبالفعل عاد الى أرض الوطن يوم 25 مارس 1967. وقد ذهبت رفقة الحبيب عاشور الى المطار لاستقباله، فوجدنا عددا غفيرا من أصدقائنا النقابيين في انتظار قدومه. وعندما نزل المرحوم من الطائرة كان مرفوقا بابن أخيه الأخضر التليلي وأظن ان ابنه عبد الرحمان كان معه ايضا وقد رجع من باريس حيث كان يدرس.
وفود من النقابيين للتهنئة والترحيب
في المطار، وبعد طول ترحيب التليلي بمستقبليه وكان الارهاق باديا عليه، عدنا معه الى المنزل حيث كانت الوفود تقدم التهاني وتخرج فيما قضيت معه أنا والحبيب عاشور أطول وقت ممكن. بعدها تواعدنا على المقابلة من الغد، فأتاني الحبيب عاشور الى المقهى في الصباح وذهبنا الى منزل التليلي حيث بقينا كامل اليوم ليستقبل معه الحبيب عاشور وفود النقابيين الزائرين. وكان احمد التليلي بين فترة واخرى يتغيب بعض الوقت لينال قسطا من النوم والراحة ويبقى الحبيب عاشور ليستقبل الزائرين. وبعد يومين او ثلاثة، جاءني الحبيب عاشور وطلب مني مرافقته لزيارة أحمد التليلي الذي كان قد أعلمه بأنه سينتقل لعيادة طبية وطلب منا ان نزوره هناك.
* صورة جمعت أعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري ومن بينهم احمد التليلي ثانيا في الصف الاول بداية من اليمين ووراءه مباشرة الطيب المهيري، فيما يظهر الحبيب عاشورآخر الصف الثاني والى يساره الفرجاني بلحاج عمار رئيس اتحاد الاعراف ووراءه الهادي نويرة محافظ البنك المركزي ويغيب من هذه الصورة احمد بن صالح.
وعند حلولنا بالمكان، وجدنا أعوان الشرطة المكلفين بحراسته فقالوا للحبيب عاشور ان احمد التليلي قد خرج في الصباح الباكر من العيادة وذهب الى المرسى على متن السيارة التي كان قد وضعها على ذمته ابن أخيه عبد العزيز وانتدب له سائقا لسياقتها وأظن انه كان سائقا قديما له، وانه قال لأعوان الشرطة: إذا قدم الحبيب عاشور، فقولوا له ان ينتظرني.
فطائر لذيذة في غرفة المصحة
لم ننتظر طويلا اذ جاء بعد وقت وجيز ومعه (فطائر) لذيذة جلبها من المرسى. دخلنا غرفته لتناول الفطائر وفي الاثناء سأله الحبيب عما إذا كانت صحته قد تعكرت حتى ينتقل للعيادة فقال لا ولكنه هنا هو في راحة اكثر من البيت. ولم تطل إقامته بالعيادة اذ عرض عليه محمد صفر منزلا له كائنا بقمرت كان شاغرا ومؤثثا فإنتقل احمد التليلي للسكن فيه لبضعة ايام عاد اثرها الى منزله.
وفي أحد الايام هاتفني أحمد التليلي ليقول لي انه موجود بوسط المدينة وانه سيمر عليّ بمكتبي ليأخذني معه الى منزله لتناول الغداء، كان من عادتي التي استمرت معي طيلة حياتي اني أنام في الظهر واثر الغداء مباشرة، ولما أشعرته بالأمر قال لي ان هناك بالمنزل غرفة استطيع أن أنام فيها كيفما أريد وعند تناول الفطور، كان المرحوم أحمد فاقدا للرغبة في الأكل نتيجة المرض الذي يعانيه وأعلمني أن الحبيب عاشور سيقدم بعد الظهر كما سيأتي ايضا محمد المصمودي (وكان انذاك سفير تونس بباريس) ولما أتى محمد المصمودي أخرج من جيبه مشروع الرسالة التي كتبها باسم احمد التليلي وأتى بها ليدخل عليها أحمد ما شاء من التعديلات ثم التحق بالمجموعة الباجي قائد السبسي ولم يقترح اي تنقيح وترك لأحمد التليلي حرية اختيار الألفاظ. وفي النهاية كانت الرسالة في أغلبها من تحرير احمد التليلي (وأعتقد ان الباجي القائد السبسي هو الذي أوصل تلك الرسالة للرئيس وربما أكون مخطئا في ذلك) وصلت الرسالة للرئيس وكان ردّ فعل أحمد بن صالح كرهه لأي تقارب يحصل بين الرئيس واحمد التليلي ودون ذكر اي اسم، صرح لإحدى الجرائد "ان ثعابين تحوم حول القصر وانه سيتصدى لها".
الحركة التعاضدية تتسع بطريقة متنامية
اثر مرض الرئيس بورقيبة وانطلاقا من يوم 14 مارس 1967، فإن أحمد بن صالح، كما ذكرت الصحفيتان سهير بن بلحسن وصوفي بسيّس في كتابهما عن الحبيب بورقيبة (وهو من أحسن الكتب التي كتبت عنه) اصبح رجلا متسرعا ومستعجلا أمره فالحركة التعاضدية تتسع بطريقة متنامية لتشمل كل القطاعات الاقتصادية والاستغلال الفلاحي الخاص اصبح يضيق يوما بعد يوم وتعاضديات الخدمات التي تم بعثها منه سنة 1961 قد حوّلت بنسق متسارع الى وحدات انتاج ممركزة كما ان تجارة التفصيل قد مسّت بدورها هي ايضا وبدأت صورة (الحوانتي الجربي) تختفي من احياء تونس العاصمة. وهذا التوظيف الاجباري لكامل الاقتصاد التونسي قد انعكس على الانتاج بصفة مأساوية، فالفلاحون الذين اصبحوا أجراء، لم يعودوا يزرعون أراضيهم لأنه لم تكن لديهم النية مطلقا ان يعطوا نتيجة شغلهم للدولة. واما التجار ورجال الصناعة فإنهم لم يعودوا يستثمرون والعملة الذين يبحثون عن عمل، بدأوا في الهجرة الى الخارج وظهر النقص الفادح في مواد الاستهلاك مما زاد في غضب شعبي بدأ يعمّ البلاد.
* صورة من زيارة للرئيس بورقيبة الى صفاقس حيث دشن تعاضدية مملوكة للاتحاد ويظهر فيها من اليمين الوالي محمد بن الامين فاحمد بن صالح في الصف الثاني فالحبيب بورقيبة في الصف الاول يستمع الى شروح من الحبيب عاشور.
ولكن الوزير بن صالح لم يكن يعير ذاك اي اهتمام واستمر في التقدم الى الامام ومنذ سنة 1967 انتظمت الحركة التعاضدية في هيكلة هرمية تنطلق من اتحادات جهوية لكي تنتهي بالاتحاد القومي للتعاضد) والذي عقد مؤتمره التأسيسي يومي 24 و25 جانفي 1969).
من محطة الارتال الى محتشد الهوارب
اكتفي هنا بهذا القدر من كلام الصحافيتين سهير بلحسن وصوفي بسيس لأقول ان من عاش في الستينات كان يدرك ان الفاقة بدأت تعم الارياف ونجم عن ذلك النزوح الواسع لأعداد غفيرة من سكان الارياف وقد كان منظرا مأساويا عند هبوط الليل لما تنطلق الشرطة في عمليات القبض على هؤلاء المساكين والذين كانوا يتواجدون قرب محطة الأرتال بتونس ليتم حشرهم في شاحنات وينقلون الى محتشد الهوارب قرب القيروان الذي كوّنه واشرف عليه عمر شاشية ذلك الوالي الذي كان يدين بالولاء لأحمد بن صالح وكان يأتمر بأوامره.
كل التعاضديات الفلاحية التي أنشئت لم يكن يديرها المتعاضدون بأنفسهم كما يفترض في كل تعاضدية تقول وأنها تنتهج النهج الاشتراكي بل كان يفرض عليها مدير يتقاضى أجرا هاما وهو أجنبي عن المتعاضدين وبلغت الامور ببعض هؤلاء ان كان يتوجه بسيارة التعاضدية بعيدا عنها احيانا بالاربعين كيلومترا لتناول (قهوة إكسبريس).
كان بن صالح يعلم ان نظامه التعاضدي ما كان ليبقى الا بمباركة بورقيبة ولذلك كان متخوفا كل التخوّف من رجوع المرحوم احمد التليلي الى تونس ومن يدري فقد يستطيع اقناع الحبيب بورقيبة بالعدول عن سياسة التعاضد وتنتهي، هكذا، الاشتراكية الدستورية، لكن المرحوم أحمد التليلي لم يمهله المرض حتى يقوم بتجسيم ما جاء برسالته للحبيب بورقيبة في أوائل سنة 1966.
احمد التليلي قارئ جيد
طيلة شهر افريل من سنة 1967 كنا نتقابل يوميا (أحمد التليلي والحبيب عاشور وأنا عندما تسمح لي ظروف عملي بذلك) في مقهى تابع »لنزل الكلاريدج« كان الارهاق والمرض ظاهرين على احمد التليلي ولكنه لم يشتك مطلقا وكان أحيانا يمرّ علينا ابن جهته اسماعيل الآجري أو مصطفى كوكة ليريا ان كان احمد التليلي يحتاج شيئا، أحيانا كان يكلفهما بالذهاب الى احدى المكتبات للبحث له واشتراء كتب كان يعطيهما عناوينها لأنه لم ينقطع أبدا عن المطالعة بالفرنسية لكل الاصدارات السياسية التاريخية الحديثة بفرنسا واعتقد ان هاته الكتب كانت هي مؤنسته في ليالي الأرق الطويلة والذي زاده المرض إحتداما وكان احمد لا ينفك عن المطالبة بالديمقراطية مع كل من لاقاه من المسؤولين بالحزب وربما ساهم بصفة غير مباشرة في تزايد الانتقادات بين مسؤولي الحزب لسياسة بن صالح لأنه لم تكن للدولة انذاك اي سياسة غيرها.
وفي يوم 13 ماي 67 انتقل احمد التليلي الى باريس حيث دخل المستشفى لإجراء عملية جراحية وبقي بالمستشفى منذ ذلك التاريخ وقد اجريت له هاته العملية بتاريخ 31 ماي 1967 وطيلة بقاء التليلي بالمستشفى زاره الحبيب عاشور مرتين في باريس بقي في كل منهما عدة ايام ليوالي زيارته للمستشفى وليرافق احيانا وفود العمال التي كانت تتوجه للاستفسار عن حالة أحمد التليلي.
وفي هاته الفترة اصدر بورقيبة رفع قرار رفت احمد التليلي من الحزب، وعند رجوع الحبيب عاشور الى تونس كان متأثرا جدا لانهيار الحالة الصحية للتليلي وكان متشائما في شأنه.
عاشور و قهر هزيمة 67
وعندما كان احمد التليلي في باريس حَدَثَ حَدَثٌ عظيم اذ ألحق الجيش الاسرائيلي هزيمة نكراء بالجيش المصري يوم 5 جوان 1967 واثر ذلك استقال جمال عبد الناصر ثم وبطلب شعبي في مصر عدل عن الاستقالة.
ولم أر في حياتي الحبيب عاشور يبكي الا ذلك اليوم من قهر الهزيمة وكنا نسير في شارع شارل ديڤول حتى بلغنا ادارة البريد ودون ان يقول شيئا اندفع داخلها حيث وجه برقية للحبيب بورقيبة ليطلب منه التضامن مع الرئيس جمال عبد الناصر في ذلك الظرف الدقيق ولا أدري ماذا كانت ردود فعل الرئيس بورقيبة على تلك البرقية.
* في الصورة الاولى يظهر الحبيب طليبية نقابي من الرعيل الاول من بنزرت فالحبيب عاشور فاحمد بن صالح وفي الثانية يظهر بورقيبة واحمد بن صالح
وفي يوم الاحد 25 جوان 67 توفي احمد التليلي بالمستشفى بباريس وتوجه وفد هام من تونس للعودة بجثمانه على متن الطائرة الى مطار العوينة ومنه نقلوه الى منزله حيث بقي تابوته مسجى هناك وحصل اضطراب بين الحاضرين حيث أصرّ أهالي قفصة ومن بينهم شقيقه على دفنه بمدينة قفصة ولكن ليلتها قدم الدكتور الصادق المقدم وقال لأهل الفقيد ان الرئيس بورقيبة قرر بأن يدفن التليلي في مربع المناضلين الدستوريين بجانب قبر الطيب المهيري وأن الباهي الأدغم هو الذي سيتولى تأبينه.
باكستاني أمريكي يبكي احمد التليلي
وعندما كنا في تلك السهرة الجنائزية وكان بجانبي محمد علي القصري محافظ الامن رئيس ادارة الاستخبارات وهو صهر احمد التليلي، أتي زميلي وصديقي الاستاذ الشريف الماطري لتقديم التعازي وكان مرفوقا بشخص أسمر الملامح قدمه لي بالعربية وقال لي انه الاستاذ احمد إقبال صديق المرحوم احمد التليلي وكان قد قدم في الحال من باريس التي أتاها من امريكا لزيارة التليلي بالمستشفى وكان احمد إقبال يبكي ليلتها بكاء مرّا ولم ينقطع عن البكاء حيث تنتابه نوبة بكاء من حين لآخر كما قدمه للحبيب عاشور، وكان المرحوم احمد التليلي قد حدثه مطولا عن الحبيب عاشور حيث شارك احمد إقبال في حملة بأمريكا لفائدته وكتب في عديد الصحف بأمريكا مقالات يتحدث فيها عن الزعيمين التليلي وعاشور.
كان احمد إقبال أستاذا جامعيا بالجامعات الامريكية وهو امريكي الجنسية من اصل باكستاني وقد عاش في تونس سنتين اذ أتى لكتابة بحث عن الحركة السياسية بتونس وترجع لذلك التاريخ صداقته للشريف الماطري الذي تعرف اليه عن طريق والده الدكتور محمود الماطري كما ترجع لهذا التاريخ صداقته لأحمد التليلي وكان يتكلم العربية بطلاقة وطلب مني ان أتقابل معه من الغد في عشاء بمنزل آل الماطري.