آراء حرة

الساحة ‏‎ (The place) ‎‏ أو منوال التحديث الصيني

بيجين (الصين) الشعب نيوز / طارق السعيدي - هي ليست مكانا في قلب نيويورك او في برلين او بين ناطحات سحاب دبي، هي ‏"The ‎Place"‏ مكان عام راق هادئ جميل في قلب عاصمة الصين بيجين.

*-*-*-*-*-*

‏في تلك الساحة ‏‎(The Place)‎‏ تجتمع مغريات الجمال النابعة من الثقافة الشرقية، مع ‏مختلف مكتسبات الحداثة من تقنية وتصنيع وتنظيم وانفتاح.

في الساحة توجد واحدة من ‏أكبر الشاشات المعلقة في العالم، وألعاب الأطفال الغارقة في التقنية الحديثة.

في الساحة ‏ ‏‎(The Place) ‎‏ تجتمع كل الماركات العالمية للموضة والتكنولوجيا لتنصهر مع ‏الموروث الثقافي الغني للصين و المتجسد في اللباس والاكل والطابع الخاص للاماكن.‏ ‏

عندما تكون في "الساحة" ستحسن أنك هادئ مرتاح البال. في تلك الساحة تقاذفتني الكثير ‏من الأحاسيس الجميلة واصطنعت لنفسي ذكريات رائعة لا تمحى، ذكريات اكاد اجزم ‏انها الاجمل. في الساحة تنازعت روحي العيش بين لحظات المتعة التي يمنحها المكان ‏والصحبة وبين خطاب العقل وهو يقارن هذه الصين التي امامي بالصين التي استوحيت ‏صورتها من نقاشات طلابية حول الماركسية والماوية وكتب ماو من بعض أفلام وثائقية ‏فيها ما فيها وكثير من الأفلام التي انصفت البلد أحيانا واحيانا أخرى لم تنصفه.

‏لعلي اصبت بالانبهار خاصة عندما توغلت مع رفاق الرحلة محطتين في مترو الانفاق ‏وذهبنا الى سولانا. لقد ابهرتني ‏‎(The Place)‎‏ الساحة، بوصفها المكان الذي احببته اكثر ‏من غيره في بيجين، انبهار بمزيج غريب بين الحداثة وجمال الموروث الثقافي. ولكن ‏للعقل احكامه الذي يستوجب مني التوقف قليلا لمحاولة الفهم ولنقل ما شاهدته كما ‏شاهدته، فعند التجرد العقلاني من كل توابع التمثلات المسبقة عن الصين، ستجد نفسك في ‏بلد يجمع كل مقومات الحداثة بعد ان انتقل من الزراعة الى التصنيع وبعد ان تحولت ‏التجمعات القروية البسيطة الى مدن عملاقة

يتنقل الصينيون في مترو أنفاق سريع عصري نظيف غير مزدحم وفي حافلات بتوقيت ‏مضبوط. في صباح يوم العمل تزدحم الطرق بالسيارات الخاصة وبسيارات التاكسي.

قد ‏تجهد نفسك كثيرا لإيجاد ملامح التقادم والتآكل في اسطول السيارات. في الصين وانت ‏ذاهب الى الساحة ‏‎(The Place)‎‏ ستقف مذهولا امام ناطحات السحاب المبهرة والمفعمة ‏بالتقنية والتحديث. وانت تتجول في الشوارع المؤدية الى الساحة ‏‎(The Place) ‎‏ ذهابا او ‏عودة، ستتكشف دفعة واحدة ان الصين بلد حديث دون شك وان التحديث الخصوصي ‏يحصل بالفعل.‏ ‏

*-*-*-*-*-*‏ 

‏ يبرز الخطاب الرسمي الصيني الذي استمعت اليه بانتباه طيلة زيارتي الى الصين وعي ‏المسؤولون الصينيون انهم في مرحلة تحديث ولكنهم يصرون على انه تحديث خاص ‏بالصين هو تحديث مختلف عن الغرب وهو تحديث قابل للتقاسم والتشارك.

إضافة الى ما ‏قد يوجه الى الحداثة من انتقادات السيولة كما اعتبرها باومان او حداثة المخاطر على ‏راي الريش باك فان الصينين يحتفظون لأنفسهم بنقدهم الخاص للحداثة الغربية.

هي ‏بالنسبة اليهم حداثة الاستعمار والاقصاء وحرمان الشعوب من حقهم في تقرير المصير. ‏في خطابة امام قمة بيكين لمنتدى التعاون الصيني الافريقي في 05 سبتمبر 2024 أكد ‏السيد شيي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية على "إن التحديث حق غير قابل ‏للتصرف لجميع دول العالم.

لقد تسبب المسار الغربي في معاناة عميقة للدول النامية‎.‎‏" ‏وتقترح الصين عوضا عن ذلك بديلا اخر للتحديث قائم على الشراكة والتضامن واحترام ‏الخصوصيات الثقافية للشعوب.‏ ان الإطار العام لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين هو خلق سياق تحديثي ‏خاص بالصين وشركائها في مختلف بلدان العالم. وتقترح الصين تقديم العون وتسهيل ‏الولوج الى التكنولوجيا والسيطرة عليها عبر البحث المشترك وتطوير البنى التحتية وهو ‏ما يعني التقاسم الذي يمثل البديل الموضوعي للحرمان والاقصاء والاستعمار.‏

مسؤولو الصين يفخرون أيضا بتاريخهم غير الاستعماري ويقولون انهم يقدمون الى ‏العالم بديلا تحديثيا من اجل بلوغ التنمية ويقترحون على افريقيا وحدة استراتيجية فهم ‏يريدون "أصدقاء حقيقيون يتقاسمون معهم الطريق."

‏ ‏-*-*-*-*-*‏

لقد قدم لي الخطاب الرسمي الإطار العام لفهم مبادرة الحزام والطريق بما تضمنه من ‏مقولات جديدة للتحديث تختلف عن ما سبق تقديمة في الادبيات الغربية. والحقيقة ان فهم ‏البديل الصيني للتحديث ليس هينا. ان فهم الحداثة بوصفها انتقال من المجتمع التقليدي ‏القائم على الزراعة الى المجتمع الصناعي الحديث وما يفرضه هذا التغيير الاجتماعي ‏من فردانية يجعل من الصعب فهم الحداثة على الطريقة الصينية. فالحداثة بوصفها نسق ‏الفردانية الخالص قد لا تتوافق كثيرا مع ما يطرحه الصينيون من حداثة تقوم على الجهد ‏الجماعي وعلى علوية المجموعة.‏ من اجل تكوين فكرة أولية قد تساعد على فهم هذا الاشكال كان لا بد لي ان اتجول في ‏الليل.

تغلق محلات بيجين عند الساعة الحادية عشر ولكن الشوارع في مختلف الاحياء ‏المحيطة بالعاصمة تظل مفعمة بالحياة.

في جولات الليل شهدت مع رفاقي الكثير من ‏الحفلات الليلية التي تعتمد الموسيقى الشرقية كما الغربية. في الشوارع تقام مراسم ‏حفلات صغيرة مفتوحة للعموم.

بمكبر صوت وآلات محاكاة الموسيقى ترتسم الملامح ‏الأولى للفرد الصيني المحب للحياة. في الشوارع ينتشر الباعة والتجار وتبقى المحلات ‏مفتوحة طوال الليل لتستجيب لكل حاجيات الفرد الاستهلاكية.

انها ملامح السوق التي لا ‏تضبطها القواعد العامة للتخطيط المسبق. وبالتالي فانه يمكن القول ان التصنيع على ‏نطاق واسع المكثف والمعمم في الصين بقدر ما يخضع الى استراتيجية مركزية تفرضها ‏خطة الانفتاح والإصلاح المتعمدة رسميا بقدر ما يسمح للفرد بخوض تجربة السوق. فرد ‏يعمل بجهد ضمن سياق الاستراتيجية التنموية التي يرسمها الحزب الشيوعي الصيني ‏ويعلي بالتالي أسس حداثة قائمة على الجماعة.

وهو في الوقت نفسه فرد له القدرة على ‏الاستمتاع بحياته في سياق نمط فرداني خصوصي. كما يمكنه رسم سياقه التنموي ‏الخصوصي الذي لا يخضع بالضرورة الى قواعد السياق العام. وقد تكون امام حداثة ‏متعددة الابعاد نقيضة لحداثة البعد الواحد ( ماركيوز).

من هنا يمكن ان نفهم بروز ‏المليارديرات واباطرة المال والتجارة مثل صاحب متجر علي بابا الالكتروني الشهير، ‏انه اقتصاد التخطيط الذي يفتح في الوقت نفسه نافذة للفرصة الخاصة.

وهو بالتالي ‏تحديث خصوصي لا يجعل الفرد ينفلت في فردانيته ولا يحرمه الفرصة في بلوغ اقصى ‏درجات الفردنة ان أمكن له ذلك. ولعل الصين وهي تمسك بمفتاح التقنية وتقاليد ثقافية ‏شرقية تعود الى الاف السنين قد تقدم للعالم سياقا تحديثيا جديدا انها تجربة فريدة شجاعة ‏جديرة بالتأمل والمتابعة.

فهذا النمط التحديثي الصيني الخالص يتجسد في الساحة‎(The Place) ‎‏ التي اعشقها، ساحة تشهد على سياق التحديث الصيني الخصوصي ساحة سأحنّ ‏اليها بما لها من اثر نفسي مريح لن يمحى.‏