أيام في الصين : السيادة على التقنية وفرص النمو وامكانات الضبط الاجتماعي الذكي
بيجين (الصين) الشعب نيوز/ طارق السعيدي - عندما تتجول في شوارع بيجين او احدى المدن الأخرى ستلاحظ الحضور اللافت للكم الهائل من الكاميرات. في البداية وانت القادم من مجتمع يعتمد اليات الرقابة والضبط التقليدية سترتاب من حجم ما قد يلتقط لك من صور. ستخاف ان تضبطك الكاميرا وانت تقتطع الطريق عنوة على الإشارة الحمراء البارزة لكل مبصر. غير ان ذلك التوجس من ان ترصدك الكاميرا وانت بصدد مخالفة القانون هو البداية الفعلية للضبط الاجتماعي الذكي.
عندما يتأكد المرء من ان كل ما قد يأتيه من مخالفات واعتداء على النظام العام سيكون مكلفا وحينيا، ساعتها سيكف الفرد عن ارتكاب المخالفات وسيكبح جموحه نحو الخروج عن الضوابط العامة للمجتمع. قد يؤدي وجود الكاميرات الى تقليل منسوب التلقائية في السلوك وقد يجعل الناس أكثر حرصا في معاملاتهم وتعاملاتهم العفوية. غير ان هذا الثمن اقل كلفة بكثير من اليات الضبط التقليدية.
-*-*-*-*-*-*
خلال مشاركتنا في “الدورة التدريبية حول بناء قدرات التواصل الإعلامي التي نظمتها من 19 أوت إلى 1 سبتمبر شركة التعاون الدولي الاقتصادي والتقني للبث الصيني CBIC برعاية وزارة التجارة الصينية، تمكنت واصدقائي الصحفيين من توفير الوقت اللازم للتجوال في شوارع بيكين رغم ضيق الوقت وكثافة الزمن التكويني. في تلك الساعات تجولنا في شوارع العاصمة ولم اشعر للحظة بوجود أي نوع من أنواع التهديد. وانا اتجول تفاجأت بحجم السلم والهدوء الذي يطغى على سلوك الافراد.
في الحافلات يركب الناس بهدوء ولا يصدرون الضجيج. في الغالب لا يتحدثون الا بصوت خافت للغاية لا يكاد يسمع. عندما سألنا، قيل لنا ان الصينيين يحترمون الفضاء العام ويحرصون على عدم ازعاج الاخر. يصعد الناس الى عربات المترو دون تدافع وفي هدوء وبمجرد امتلاء العربات يتوقفون عن الصعود. في ساعات الذروة تكتظ العربات ولكنها لا تزدحم ومهما كان عدد المسافرين في العربة فأنك لا تشعر بالضيق ولا تحسن بجسدك المنهك محشورا حتى الاختناق. انه نظام اكتسب بالتنشأة الاجتماعية وبالتعود وبفضل الضبط الاجتماعي الذكي.
في لحظات التيه القليلة بين شوارع العاصمة الضخمة الممتدة، احتجت في بعض اللحظات الى من يرشدني. كان يكفي ان تطلب المساعدة من أحدهم حتى يتقدم اليك أكثر من صيني لتقديم العون. قد لا يجيدون لغتك وقد لا تفقه لغتهم ولكن التقنية توفر الحل عبر تطبيقات متعددة من الترجمة الفورية في لحظات قليلة تفهمهم ويفهمونك ويدلونك الى أقرب السبل. في حديثهم معك هناك لطف وثقة وقليل من المرح يشعرانك بالأمان وانت الغريب وسط شوارع تزدحم بالبنايات الهائلة.
-*-*-*-*-*-*
يحتاج كل مجتمع الى اليات وعمليات مجتمعية وسياسية تهدف الى تنظيم سلوك الفرد بهدف الضبط الاجتماعي. وتمثل الدولة المؤسسة الاجتماعية الأكثر اضطلاعا بمهام تنفيذ عمليات الضبط الاجتماعي بوصفها هيئة انفاذ القانون. و الى زمن غير بعيد، كانت الدولة تمارس العنف الشرعي على معنى ماكس فيبر لتنفيذ مهام انفاذ القانون ويمثل التدخل البشري المباشر عبر وسائل الاخضاع المعروفة أبرز اليات وسياسات الضبط الاجتماعي. وقد مثلت اليات الاخضاع والضبط التقليدية احراجات جمة لما فيها من عنف مادي وعنف رمزي على الافراد والمجتمعات والتجمعات البشرية.
غير ان التطور التقني الهائل الذي تشهده الإنسانية منذ ظهور العصر الأول للبرمجيات والأجهزة الذكية وصولا الى الذكاء الاصطناعي قد فتح افقا جديدا لأليات واستراتيجيات ضبط اجتماعي جديدة منسجمة مع المعايير الأخلاقية والحقوقية. في الدول المتقدمة الممسكة بزمام التقنية والقادرة على صناعتها او شرائها وتوظيفها يفتح الذكاء الاصطناعي مرحلة جديدة من الضبط الاجتماعي القائم على الاستباق والتعرف الالكتروني الفوري، على كل مخالف للقانون، وللمعاير السلوكية المتفق حولها. وبذلك لن تعود الدولة في حاجة الى اعداد غفيرة من الموظفين ولا الي سياسة ترصد طويلة الأمد ولا انتظار الصدفة الطيبة للإيقاع بالمذنب، بل سيقول الذكاء الاصطناعي كلمته وسيتكفل بأعقد مهام الضبط الاجتماعي وبتنفيذها بأقل كلفة وفي أسرع وقت.
-*-*-*-*-*-*
ان هذا الامر أي الضبط الاجتماعي الذكي والقدرة على الرقابة والاستباق يكتسي أهمية بالغة ونحن نتحدث عن الصين بلد المليار ونصف المليار. انه انتقال مذهل ولافت يخفي وراءه ما يخفي من التطور التقني والقدرة على التعامل مع الكم الهائل من المعطيات. يستوجب تخزين معطيات خاصة بمليار ونصف من البشر وتحويلها الى رصيد ومرتكز للحكم والتقييم والتعرف على السلوك، قدرات تقنية لا تتوفر الا في بلد كالصين امتهن التقنية وتحكم في كل سبلها.
ان التقنية ليسا حدثا حياديا بل ان التطور التقني هو أحد محددات التغير الاجتماعي وفق النظرية الماركسية. وبالتالي فان التحكم في التقنية وحسن اداراتها واستباق الأفق يمثل امرا مركزيا لمجتمع يضع لنفسه رهان تحقيق حداثته الخاصة البديلة عن الحداثة الغربية.
اعتقد من خلال زيارتي البسيطة الى الصين ان هذا البلد العملاق الذي يخطو بثبات في اتجاه الحداثة قد اتقن لعبة التقنية واجاد اعتمادها لا فقط من اجل التطوير والنمو، ولكن أيضا من اجل الضبط الاجتماعي الذكي.