في الحلول الممكنة لاقتصاد متعثّر (1): خطاب الانكار والتخوين لا يخدم مصلحة البلاد ولن يحجب حقيقة الازمة
الشعب نيوز/ طارق السعيدي - شهد الفضاء العام خلال الأسابيع القليلة المنقضية نقاشا حول الوضع الاقتصادي في البلاد. وتم خلال النقاشات التطرق الى عديد المواضيع التي بدت مهمة الى حد ما. وقد اثرت عديد العوامل في جعل النقاش محدودا.
في المقابل، يمكن ملاحظة ان الفضاءات الاعلامية لم تكن مفتوحة بما يكفي من اجل نقاش عميق متعدد كما اقتضت خصائص العمل الصحفي المكتوب منه وخاصة السمعي البصري القائم على السرعة والاختصار وضيق الوقت الدائم، الانتقال السريع من موضوعات الى اخرى. وكان من السهل ملاحظة غلبة الطابع اليومي الآني على النقاش الذي انشغل بالمستجدات وتتبع التفاصيل دون وضع تصور عام.
لذلك، رأينا انه من المهم إعادة ترتيب النقاش من خلال هذا المقال، دون ادعاء، من اجل صياغات جديدة للنقاش العام تمكن فعلا من التوصل الى ملامح سياسات اقتصادية ناجعة ومتوازنة، وتمكن أيضا من تحديد الفاعلين القادرين على إنجاح تلك السياسات.
في طبيعة الوضع الاقتصادي
تشير احصائيات المعهد الوطني للإحصاء الى ان نسبة البطالة تصل الى حدود 16 بالمائة وان نسبة التضخم قد بلغت 6.7 بالمائة وهو رقم مهول مقارنة بتطلعات الليبراليين (أي نسبة تضخم لا تتجاوز 0.2 بالمائة)، فيما بلغت نسبة النمو الاقتصادي 1.8 بالمائة. وبالعودة الى السنوات المنقضية نجد نفس الأرقام تقريبا مع ملاحظة ارتفاع نسبة التضخم الى حدود 10 بالمائة في 2021.
ان هذه الأرقام ليست استثنائية، بل هي دائمة وتعود الى أكثر من خمس سنوات مع تغيرات طفيفة. وبعبارة أوضح، يمكن القول ان الاقتصاد التونسي عاجز عن تجاوز حالته وانه يمكن استنتاج ان الخلل حاصل في محركات النمو ذاتها وان النظام العام للإنتاج قد بلغ منتهاه.
وإذا ما دققنا النظر في هيكلة النمو الاقتصادي سنجد انه غير ثابت أي ان قطاعات الإنتاج الأكثر اسهاما في خلق الثروة تتبدل من سنة الى أخرى. ففي السنة الحالية نلاحظ الدور المهم للقطاع الفلاحي الذي ساهم في جعل النمو إيجابيا بعد ان حقق تطورا بنسبة 10.6 بالمائة الى حدود اكتوبر في حين تراجع نمو قطاع الخدمات الى 1.4 بالمائة. وخلال نفس الفترة من سنة 2023 سنجد ان النمو الذي بلغ 2.1 بالمائة وان قطاع الفلاحة عاش ازمة بعد ان سجل تراجعا بنسبة 3.1 بالمائة بحساب الانزلاق السنوي، فيما كان الاسهام الأبرز في تحقيق نسبة النمو الاقتصادي لقطاع الخدمات الذي حقق نسبة نمو بنحو 3.2 بالمائة.
وبالتالي فانه يمكن القول اننا ازاء اقتصاد هش من وجهة نظر هيكلية أي انه يعاني من انكماش مستمر وتذبذب في اداء القطاعات الإنتاجية. ذلك ان ما يعانيه الاقتصاد التونسي هو ازمة تامة الشروط وعليه، فان خطاب الانكار ومساعي الحاق الازمة بالفعل التآمري لا يخدم مصلحة الاقتصاد لان الانكار لن يحجب حقيقة ان هناك ازمة هيكلية تستوجب المعالجة في سياقات وطنية.
التشعّب وعدم اليقين
ان الحقيقة الاقتصادية متشعبة ومعقدة بقدر تشعب وتعقيد الحقيقة الاجتماعية. وبالتالي فانه من باب الادعاء المحض، القول بشمولية المنوال التنموي أي قدرة برنامج شامل بخطوات واضحة في كل الاتجاهات على جعل الاقتصاد يبلغ نتائج معلومة.
عندما نتحدث الان عن التضخم المالي الذي يبلغ6.7 بالمائة الأكيد ان عددا لا باس من الناس سيعلنون بثقة انه مضر بالاقتصاد وانه شر يجب تفاديه. غير ان هناك مفكرين اقتصاديين يعتبرون التضخم هدفا ثانويا مقارنة بالهدف العام وهو إعادة الحركية الاقتصادية وبلغة أخرى، فان هناك من يرى انه لا بأس في القليل من التضخم المالي اذا كان بإمكان الاقتصاد تحقيق مستوى عال من الإنتاج والتشغيل.
عندما نتحدث مثلا عن تدهور سعر الدينار مقابل العملات الأجنبية، سيقول عدد كبير من الناس انه أضر بالاقتصاد واخل بالتوازنات المالية الكبرى وكلف الاقتصاد كلفة إضافية "وهمية". في المقابل ستجدون من يعتبر ان تراجع الدينار مهم باعتباره محفزا للاستثمار الأجنبي المباشر.
عند الحديث عن الأجور ستجد ان جزء غير يسير من الشعب يعتبر الاجر زهيدا وسيعتبره اخرون كافيا ويمثل عامل قوة الاقتصاد لأنه يغري المستثمرين بالقدوم الى بلادنا والاستفادة من فوارق الأجور مع العمال في الضفة الشمالية للمتوسط.
من خلال ما تقدم يمكن القول انه لا توجد حقيقة اقتصادية واحدة، او ان الحقيقة الاقتصادية لا ترى من نفس زاوية النظر وبالتالي فانه لا يوجد ما يمكن اعتباره وصفة جاهزة مضمونة النتائج بقدر ما تعتبر كل سياسية اقتصادية مغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر. في هذا السياق لا يمكن لاحد ان يدعي امتلاك الحقيقة وبالتالي فان الحقيقة هي التي ستكون محل اجماع الفاعلين الاقتصاديين وأطراف الإنتاج.
-----
ملاحظة هامة: ينشر المقال كاملا في عدد جريدة الشعب الورقية بتاريخ 21 نوفمبر2024