في ذكرى التقسيم... التاريخ المخفي في الرواية الرسمية عن النكبة الفلسطينية
قولة مفادها أن "التاريخ يكتبه المنتصرون" وهي تعني أن التاريخ المسطّر، وبالتالي المسيطر، ليس هو التاريخ الفعلي، أي إن ثمة تاريخا معلنا ومهيمنا ومفروضا، وتاريخا مخفيا أو محجوبا أو ممنوعا. ولعل هذا أكثر ما ينطبق على التاريخ المتعلّق بصراع الفلسطينيين مع المشروع الصهيوني، إذ إن التاريخ الذي جرى تسطيره، وأسطرته، طمس وأزاح وهمّش، أكثر مما أظهر أو كشف أو أثبت، على مختلف الأصعدة...
أولاً: أسطورة الجيوش العربية
كان من مصلحة بعض الأنظمة الترويج لدخول جيوش عدة دول عربية إلى فلسطين، بهدف منع قيام إسرائيل (1948)، في حين أن تلك الرواية تحتاج إلى فحص، فلم تكن توجد في تلك الفترة جيوش عربية بمعنى الكلمة، ثم إن بعض الدول، في ذلك الحين، بالكاد كانت قد نالت استقلالها.
على ذلك فإن المبالغة في دور تلك الجيوش كان يستهدف التغطية على عجز تلك الأنظمة، التي اشتغلت على فرض وصايتها على الفلسطينيين، وإضعاف قيادتهم الوطنية، وعدم إمدادهم بالسلاح، الذي ربما كان يمكن أن يمكّنهم من التصدي للعصابات الصهيونية، أو يخفّف من تداعيات النكبة، إذ اشتهرت جملة "ماكو أوامر" التي صدّت بها القيادة العربية مطالب الفلسطينيين بالتسلح. وبديهي فإن ذلك لا يقلّل من شأن الجهود والجنود والشهداء الذين قضوا دفاعاً عن أرض فلسطين، وإنما يضع هذا الأمر في إطاره الحقيقي، من دون مبالغات.,,
ثانياً، مفاقمة مشكلة اللاجئين
لعل واحدة من أهم تداعيات النكبة تمثّلت في ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، نتيجة إقامة إسرائيل، كدولة استعمارية وعنصرية واستيطانية من طابع خاص، (إذ إنها إجلائية للفلسطينيين وإحلالية لليهود)...
هكذا تم خلق وضع شاذ للفلسطيني اللاجئ، فلا هو مواطن ولا يكتسب تلك الصفة طوال عمره، ولا هو يتمتع بالحماية التي توفرها "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، وما يضفي غرابة على هذا الأمر أن الفلسطيني لاجئ في دول عربية، وليس في دول أجنبية، وأنه يعامل كأي أجنبي لاجئ، في حين كانت فلسطين، لعقود ثلاثة سابقة، على الأقل، جزءا من بلاد الشام. والمشكلة أن الفلسطيني حرم من الهوية الفلسطينية، كما حرم من الهوية العربية، أي إن نكبته باتت لها أبعاد قانونية، أيضا، في حين كان يمكن تجاوز ذلك بمنح الفلسطينيين جواز سفر، يسهل عليهم عيشهم، إذ إن أرقى دول العالم تتيح لمواطنها حمل جنسيتين، وأرقى دول العالم تمنح المواطنة لأي شخص في غضون أربع أو خمس سنوات، بغض النظر عن لغته ودينه وقوميته ولونه وجنسه...
ثالثاً، إعاقة وممانعة التشكّل الكياني
ولعل ما زاد تعقيد مشكلة اللاجئين، والقضية الفلسطينية عموما، إعاقة النظام السياسي العربي، السائد إبان النكبة، قيام كيان سياسي للفلسطينيين، إذ رفضت جامعة الدول العربية، آنذاك، طلباً للقيادة الفلسطينية للإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين. ثم وبعد ذلك أخضع موضوع الكيانية الفلسطينية للتجاذبات العربية، فحين حاولت جامعة الدول العربية، الاستجابة لمطلب "الهيئة العربية العليا"، وهي الكيان السياسي للشعب الفلسطيني في ذلك الوقت، الموافقة على قيام حكومة فلسطينية، تم إجهاض تلك المحاولة، بإنشاء إدارة مدنية بدلا عنها، في يوليو/تموز 1948، أي بعد النكبة بشهرين...
بهذا المعنى فإن النظام العربي أسهم في إجهاض إمكان تبلور كيان سياسي فلسطيني، إذ ألحق قطاع غزة بالإدارة المصرية، وضُمت الضفة الغربية إلى إمارة شرق الأردن لتشكيل المملكة الأردنية الهاشمية، كما وُئدت "حكومة عموم فلسطين"، التي اختصرت في مجرد مكتب في القاهرة، بعد أن كانت قد حرمت من إصدار جوازات سفر للفلسطينيين، عبر جامعة الدول العربية، كان الغرض منها الحفاظ على هويتهم كشعب، وتسهيل عيشهم وتنقلاتهم، ولدرء ادعاءات التوطين عنهم.
على ذلك يمكن أن نتخيّل كم كان يمكن للفلسطينيين توفيره من جهد وطاقة ومعارك ومشكلات وتضحيات لو أن خطوتهم بإقامة كيان سياسي لهم نجحت في ذلك الوقت، قبل 75 عاما، سواء فيما يتعلق بهويتهم الوطنية وتنظيم طاقاتهم، وترسيخ مؤسساتهم الكيانية، أو فيما يتعلق بمسألة تمثيلهم في الإطارين العربي والدولي؛ وهو الأمر، أي الكيان السياسي المستقل، الذي بات بمثابة مستحيل الآن.
وفي المحصلة، فإن ممانعة النظام العربي لقيام كيان فلسطيني، على باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة والقطاع والقدس الشرقية) التي نجت من الاحتلال، شكلت عاملا من عوامل تثبيت شرعية إسرائيل، بمساهمتها في تغييب الشعب الفلسطيني، إضافة إلى أن الحؤول دون قيام تمثيل وكيان سياسي للفلسطينيين أضعف من قدراتهم، وشكّل نجاحا لإسرائيل...
رابعاً، هجرة يهود البلدان العربية
منذ البداية لم يتحمّس يهود البلدان العربية للادعاءات الصهيونية، إذ لم تشهد تلك البلدان أية حوادث يمكن أن يستشف منها عداء لليهود، بوصفهم يهودا، على غرار ما جرى في أوروبا الشرقية وفي ألمانيا. لذلك فإنهم لم يشكّلوا وزنا في ميزان الهجرة اليهودية في مجتمع "اليشوف"، أي المجتمع اليهودي في فلسطين عام 1948، قبل إقامة إسرائيل، إذ كانت نسبتهم تتراوح بين 8 و10 في المئة من إجمالي اليهود في فلسطين البالغ نحو 650 ألفا.
لكن إقامة إسرائيل كدولة استعمارية لليهود، والتوتر الناجم عن ذلك في البلدان العربية، والذي استثمرته الأنظمة المعنية لصالحها، مع النجاح الذي حققته إسرائيل بقيامها، أدى إلى خلق حوافز لدى يهود البلدان العربية، للهجرة إلى فلسطين/إسرائيل، بخاصة في العراق واليمن وشمالي أفريقيا. وبلغت هذه الهجرة أنها شكلت نصف عدد اليهود القادمين للاستيطان في إسرائيل، في السنوات الخمس الأولى لقيامها، الأمر الذي مدها بالقوة البشرية اللازمة لمجمل أنشطتها، علما أن عدد اليهود الذين أتوا للالتحاق بإسرائيل في الفترة (1948-1953)، بلغ 687 ألف مهاجر، نصفهم من يهود البلدان العربية، وهو الأمر الذي لم تبال به الحكومات العربية المعنية آنذاك، بل وربما سهله بعضها...
تخيّل واقعا من دون النكبة
ثمة ملاحظتان هنا، الأولى، أن العرض السابق ليس القصد منه تحميل المسؤولية عن النكبة للواقع العربي، أو لهذه الدولة أو تلك، إذ إن النكبة هي نتاج واقع دولي وعربي وفلسطيني، يتحمل فيها الفلسطينيون بعضا من مسؤولية ما حصل، لجهة اختلافاتهم، وتخلف حركتهم الوطنية، التي كانت محمولة على بني عائلية وعشائرية، أكثر من كونها حركة سياسية، في حين كانت الحركة الصهيونية حركة سياسية حديثة، وعابرة للبلدان والقارات، ولديها مؤسسات (أقيمت الجامعة العبرية قبل عدة عقود من إقامة دولة إسرائيل مثلا).
أيضا، فإن الفلسطينيين، تبعا لما تقدم، لم يستطيعوا إقامة كيانات سياسية فاعلة، على نحو ما فعل المستوطنون اليهود، كما أنهم ظلوا يديرون كفاحهم بطريقة عاطفية ومزاجية، وكل ذلك يمكن تلمس آثاره حتى في تجربتهم الوطنية المعاصرة.
لذا يحق لنا أن نتخيّل، اليوم، في غمرة الحماس أو النضال لإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، كيف كان يمكن أن يكون وضع الفلسطينيين، وقضيتهم، لو تمكنوا، قبل أكثر من سبعة عقود، من تشكيل كيان سياسي لهم.
عوامل دفع كثيرة
أما الملاحظة الثانية، فتفيد بأن الوضع الدولي والعربي والفلسطيني، ودينامية الحركة الصهيونية، كانت ستحقق ما حققته، في ظل تلك الظروف الفلسطينية والعربية، بسبب موازين القوى والمعطيات المحيطة، وأيضا بسبب قوة الدفع التي تقف وراء الحركة الصهيونية، ومحاولتها إقامة إسرائيل، على هامش المشاريع الاستعمارية التي كانت، وفي ظل حالة الاستقطاب العالمي بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولمواجهة التحدي المتمثل في إمكان صعود الحركة القومية العربية الواعدة، آنذاك.
مع ذلك فهذا لا يعني التسليم بأن ما جرى كان حتميا أن يجري، وعلى النحو الذي حصل به، إذ بحسب القراءة المطروحة فقد كان بالإمكان التخفيف من نتائج النكبة، ومن بعض تداعياتها، وكان يمكن انتهاج خيارات أخرى تقلل من خطر قيام إسرائيل على الفلسطينيين، وعلى بلدان المشرق العربي ومصر.
تعزيزا للشرعية
وربما هنا يصحّ القول بأن الأنظمة العسكرتارية و"القومية" كانت بحاجة للاستقطاب في شأن القضية الفلسطينية، وإعلاء شأن الصراع ضد إسرائيل، بوصفه قضيتها المركزية، لتعزيز شرعيتها، وللتغطية على سياساتها وإخفاقاتها الداخلية، وللمزايدة فيما بينها، وهذا ما أدركته إسرائيل، وما اشتغلت عليه بدورها، لتعزيز شرعيتها، أيضا، ولخلق ما تعتبره الخطر الوجودي مع محيطها، لتشكيل ثقافة مجتمعها، وهويته، التي تشكلت على محور العداء العربي- الإسرائيلي، وهو ما حصل.
في كل الأحوال فإن قراءة النكبة كحدث تاريخي، بمظاهر وتداعيات محددة، تختلف عما بعدها، لأن ذلك شأن آخر، وشأن حديث آخر، فرغم الترابط لا يجوز الخلط بينهما، لأن ما بعد النكبة له سياقاته ومظاهرة وتداعياته المختلفة تماما.
بقلم الاستاذ ماج كيالي
(من مادة له نشرها في مجلة المجلة.)