آراء حرة

فيما الظاهرة العنفيّة تستفحل وتتجدد (2):العنف في الوسط المدرسي ظاهرة قديمة ومركبة

كتب علي الجلولي المستشار في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي: يتجه العديد من المتدخلين بمختلف مواقعهم إلى التسويق العفوي أو المقصود بأن العنف في الوسط المدرسي "ظاهرة غريبة" بمعنى أنها ممارسة لسلوك ما كان له أن يوجد أصلا في الفضاء التربوي باعتبار "القدسية" التي تميزه كفضاء مخصوص. إن هذه النظرة في تقديرنا هي نظرة غير صحيحة وموغلة في المثالية والتي تنتهي بأصحابها (على نزاهة خلفية بعضهم) إلى فهم مغلوط ومعالجة قاصرة لظاهرة قديمة ومستمرة وتخترق الفضاء التربوي مثل بقية الفضاءات الاجتماعية عموديا وأفقيا.

إن الاتجاه إلى "عزل" المؤسسة التربوية عن محيطها الاجتماعي بتعقيداته وتناقضاته وتحولاته العميقة التي تنعكس في أنماط التفكير والسلوك والعلاقات والتي تشمل وتمسّ كل الفاعلين التربويين دون استثناء باعتبارهم عناصر اجتماعية، لن ينتهي إلا إلى مقاربة تؤبّد السائد وتعيد إنتاجه في أشكال وصيغ جديدة غالبا ما تكون أكثر فظاعة وأكثر تعقيدا.

إن حال المؤسسة التربوية التونسية في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لا يمكن فهمه وتقييمه خارج سياق ما يجري من تحولات قوية وعميقة وعنيفة طالت كل مستويات الحياة واقعا وفكرا، وهي تحولات تشمل كل العالم دون استثناء واخترقت كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية من الأسرة إلى المدرسة مرورا بمؤسسات الإنتاج وصولا إلى البنى التفكيرية التي تهندس الوعي الفردي والجماعي.

إن المدرسة هي مؤسسة اجتماعية تلبّي حاجيات محددة في الزمان والمكان. ووفقا لذلك تقدم خدمات معينة ترتبط أساسا بخدمات تستهدف الرأس/العقل من خلال التعليم والتدريس، وهي خدمة تعيد تشكيل الفرد وعيا وتفكيرا واستعدادا لاكتساب مهارات أخرى ضرورية ولازمة لاستمرار المجتمع وتقدمه. من هذه الزاوية اكتسبت المدرسة وتحديدا المدرّس مكانة معنوية مميزة تتجه في عديد المجتمعات والجماعات إلى ضرب من التقديس.

ولقد شهدت هذه النظرة للمدرسة والمدرّس تحولات تساوقت مع مجمل التحولات التي عاشها المجتمع. ففي بلادنا حافظت المدرسة على "النظرة التقليدية" إلى حدود الثمانينات من القرن المنصرم، وارتبطت هذه النظرة عضويا بفكرة "المصعد الاجتماعي" لدى مختلف الطبقات الاجتماعية، الأغنياء من أجل تثبيت وضعهم وتعميده بالشهادة العلمية، والفقراء من أجل تسلق السلم الاجتماعي والخروج من دائرة الفقر والحاجة اعتمادا على الشهادة والوظيفة. ضمن هذا السياق اكتسب المدرس تمييزا اجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا بمقتضى وظيفته، وسلّم له المجتمع بمهمات "خارقة" بما في ذلك حقه في احتكار العنف كجزء من "الامتيازات"التي يحظى بها والتي تيسّر له انجاز مهمّته في إخراج النشء من الأمية والجهل والفوضى، لذلك ارتبطت صفة المربّي ب "العصا" وفعل التربية بالقدرة على التحكم في التلميذ وإخضاعه وإعادة تشكيله و صياغته من جديد.

لذلك اقترن ملمح المدرّس وخاصة معلم الطور الابتدائي طيلة عقود بالتفويض الذي يناله من الوليّ ( و مجمل المجتمع ) والذي يصل حد الطلب الملحّ "حاسبني بجلده"، وكان الوليّ يتجه للمعلم أساسا لطلب "التدخل العنيف" لأن ابنه فعل كذا أو كذا في البيت أو في الشارع. لقد حاز المدرس "صلاحيات واسعة" تشمل إشرافه كليا على فعل التمدرس و أيضا فعل التربية الواسعة التي تطال سلوك التلميذ وآدابه في المدرسة وحتى خارجها. لقد تقمّص المدرس/المعلم لعقود دورا مركبا هو استمرار لدور "المدّب" الذي كان يؤمّن دروس الكتاتيب والمساجد، لذلك كان عديد المعلمين يحملون إلى حدود نهاية السبعينات لقب "الشيخ" بحكم نشأتهم الزيتونية التي كانت تعبّر عن نفسها غالبا من خلال لباسهم المميز أي اللباس التقليدي (الجبة والشاشية و العمامة) ومن خلال تخصّصهم المطلق في اللغة العربية والفقه الإسلامي (التربية الإسلامية) وأيضا من خلال ممارستهم التربوية التي كانت تلجأ إلى "الفلقة" التي كثيرا ما تحتوي القاعة أدواتها المادية (اللوحة المربوطة بحبل وعصا الزيتون) وأصحاب العضلات المفتولة من التلاميذ الأكبر عمرا لأنهم كثيري الرسوب أو التحقوا متأخرين بالتمدرس. 

 إن ماضي المدرسة التونسية (والعربية) كثيرا ما يتعاطى معه الكثير منا بنوع من الحنين و الحسرة على ماضي مجيد وتليد، وتبرز هذه النزعات حين يتمّ التطرق لواقع المدرسة اليوم وما لحقه من تدهور طال كل تفاصيلها. إن هذه النظرة غير علمية ودغمائية وهي جزء من رؤية تقديس الماضي بشكل مطلق وترذيل الحاضر بشكل مطلق.

لا شك أن لمدرسة الستينات والسبعينات من القرن الماضي مكاسب لا ينكرها إلا جاحد، وأهم مكاسبها هي توحيد التعليم وتعميمه دعما لشروط قيام الدولة الجديدة لذلك استمرت باعتبارها مصعدا اجتماعيا فعليا لمدة عقود بحكم احتياج الدولة الوليدة إلى الإطارات والكوادر في مختلف المجالات للتسيير بعد خروج إطارات الإدارة الاستعمارية وموظفيها، كما أن مناهج التعليم أخذت جزء من العقلانية تأثرا بالبرامج الفرنسية خاصة وأن اللغة الغالبة في التعليم كانت الفرنسية إلى بداية الثمانينات مع اعتماد التعريب المشوّه مع محمد مزالي.

أما من جهة الأبعاد العلائقية صلب المدرسة فقد كانت تحتكم غالبا إلى منطق العلاقات العمودية الأبوية كما كانت شائعة في المجتمع. ولم تكن المدرسة بالمطلق فضاء مستقطبا، بل كانت في الغالب فضاء منفّرا والدليل هو ارتفاع نسب التسرب والانقطاع لأسباب متعددة ترتبط بالفقر أو ببعد المدرسة عن مكان الإقامة، وأيضا بسبب كم العنف الذي كان يُمارس في المدرسة الابتدائية والثانوية من المعلم والأستاذ والقيم والمدير و حتى من عامل التنظيف.

لقد هجر العديد من التلاميذ مقاعد الدرس هربا من "العصا مسعودة" التي سببت للعديد رُهابا و" فوبيا " من الفضاء المدرسي، ولم يبق في المدرسة إلا العدد الأقل الذي تمكن من النجاح سواء لملكاته ومواهبه وإصراره أو بحكم سلطة العائلة وضغطها، وفي كل الحالات فان نسبة المتخرجين من التعليم العالي مقارنة بعدد التلاميذ الملتحقين تبقى محدودة جدا وهو ما يؤكد البعد الانتقائي في السياسة التعليمية.

ولما كانت المدرسة فضاء يؤثر ويتأثر بما يجري في المجتمع، فقد اخترقتها مجمل التحولات الحاصلة في البلاد والعالم فتحولت المدرسة خاصة منذ بداية التسعينات ورغم اتساع نسب التمدرس، إلى فضاء يحتوي ويصوغ التحولات القيمية الحاصلة تحت وطأة هيمنة الخيارات النيوليبرالية فأصبحت المدرسة تتجه أكثر نحو السلعنة والتبضيع و التقدير المادي لكل شيء بما فيه العلم ذاته.

تساوق كل ذلك مع تراجع المكانة المادية للمدرس لحساب بروز فئات ثرية جديدة لم تحقق صعودها الاجتماعي من خلال المدرسة، بل أن هذه الفئات هي الأكثر بعدا عن التعلم والأكثر أمية وتنافرا مع فضاء المدرسة مثل الفاشلين والراسبين والمرفوتين الذين علا نجمهم لارتباطهم باقتصاد الجريمة والاقتصاد الموازي والأنشطة التي لا تتطلب مستويات تعليمية ولو دنيا (الرياضات وخاصة كرة القدم، الفنون وخاصة المزود..) لتبرز على سطح المجتمع ظواهر جديدة تتلخص في التدهور المريع للأوضاع المادية والمعاشية للأوساط المتعلمة (الموظفون عموما) وفي مقدمتهم المدرسون الذين تحولوا إلى الفئات الأكثر فقرا وفاقة، والصعود الصاروخي لفئات جديدة مثل المهربين وتجار الممنوعات.

 فقد أصبح النموذج الاجتماعي الناجح (l’idole) هو صاحب الثروة مثل تاجر المخدرات والمهرب والمزاودي والكوارجي..، أما " المسكين " الذي يستأهل الشفقة فهو المدرس. لقد انقلبت الصورة الاجتماعية رأسا على عقب، كما انقلبت منظومة القيم ولم يعد المدرس يحظى بالمكانة الرمزية والاعتبارية، كما لم تعد المدرسة تحظى بالتقدير الاجتماعي وتحولت بدورها إلى سوق لبيع وشراء سلعة التعلّم والتعليم.

لقد تعززت بين جدران المدرسة كل مظاهر العنف الرمزي والمادي والاجتماعي. عنف المستويات الطبقية المتباعدة والتي تتجلى في القدرة على الدفع كشرط من شروط التفوق. وعنف البرامج والمناهج والضوارب التي عززت التمايز الاجتماعي والذي يجد ترجمته في التوجيه المدرسي ثم الجامعي لمسالك وشعب ذات آفاق وأخرى منعدمة الآفاق. يتساوق كل هذا مع الانسحاب التدريجي للدولة من مسؤوليتها والتي يعبر عنها نصيب المرفق التربوي من الميزانية العامة للدولة الذي لم يعد يتجاوز لعقود متتالية ال 15°/° والتي توجّه تقريبا 98°/° منها إلى أجور جيش المنتسبين إلى الوزارة بحكم أنها الوزارة الأكثر تشغيلية. 

لقد تدهورت ضمن هذا الوضع البائس البنية الأساسية للمدرسة التي لم تعد أجمل بناية في الحي أو القرية، بل أصبحت خربا متداعية للسقوط أبوابها ونوافذها مكسرة، جدرانها مشققة، أروقتها منزوعة الجليز، سبوراتها لم تعد صالحة من كثرة الاستعمال، دورات المياه منعدمة أو خارج الخدمة. أوراق الامتحان غير مقروءة في إطار الضغط على مصاريف النسخ والطبع لنفاد ميزانية المعهد التي بالكاد تكفي لاستخلاص مصاريف الماء والكهرباء والنظافة التي تبقى غالبا مفقودة، أما الانترنيت فهي عموما منقطعة وفي أحسن الحالات ضعيفة.

لقد سقطت "هيبة" المدرسة وانهارت نظرة الاعتراف و التقدير لها ولفاعليها وعلى رأسهم المدرس الذي " كاد أن يكون رسولا". لقد أصبح هذا المدرس مجرد رقم لا يعرف أغلب التلاميذ اسمه وهو الذي فقد الكثير من سلطته الأدبية والمعنوية التي شكلت بدورها لعقود نوعا من العنف الرمزي، وتحول هو ذاته إلى موضوع لكل أشكال العنف المادي واللامادي. تتعزز مظاهر العنف من خلال مصادر أساسية مثل وسائل الإعلام والاتصال و تحولات منظومة القيم ومنظومة الإنتاج وتقسيم العمل.

إن دائرة العنف المدرسي توسعت بشكل كبير وأصبحت تتورط فيها كل الأطراف بكل الأساليب والأشكال وليست فقط ممارسة في اتجاه واحد كما استأنس البعض التفسير: التلميذ يمارس العنف ضد المدرس، أو جميع الأطراف ضد المدرس أو جميع الأطراف الخارجيين ضد المدرسة ومنتسبيها. إن هذه المقاربة أحادية وغير موضوعية ولن تقدر على تقديم رؤية متماسكة وجدية للاشتغال على الظاهرة العنفيّة رصدا وعلاجا. يتبع

----------------

فيما الظاهرة العنفيّة تستفحل وتتجدد في الوسط التربوي: أي دور للفاعلين التربويين؟ (1) 10-01-2025 13:51

علي الجلولي: المستشار في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي -  أثارت عملية حرق أستاذ التعليم الثانوي بإعدادية ابن شرف بالشابة (ولاية المهدية) فاضل الجلولي لنفسه مما أدى إلى وفاته يوم 28 نوفمبر 2024 الجاري من جديد ملف العنف في الوسط المدرسي وتداعياته مرورا بمحاولة رصد أسبابه ومظاهره.

لقد تحرك الأساتذة بدعوة من هياكلهم النقابية في اليوم الموالي بالتوقف الاحتجاجي عن العمل لمدة ساعة، فيما دخل أساتذة المؤسسة الأصلية للأستاذ الراحل في اعتصام مفتوح للضغط على مسارات البحث الإداري منه والقضائي.

في المقابل نظم التلاميذ في أكثر من مؤسسة حملات لتوزيع الورد على أساتذتهم لتبليغ رسالة ايجابية .

وفيما دخل كل التلاميذ في امتحانات نهاية الثلاثي التي تستمر لما بقي من شهر ديسمبر (الأسبوع ما قبل المغلق والأسبوع المغلق وأسبوع الإصلاح) تتواتر الأخبار عن حالات عنف متتالية حدثت في مؤسسات تربوية أخرى كان ضحيتها أساتذة أو إداريون أو تلاميذ مثلما حدث في أحد معاهد جربة (ولاية مدنين) أين تعرض تلميذ للاعتداء من قبل أستاذه بمجسم خشبي على رأسه مما تسبب له في جرح وغرز .

إن هذه الأخبار التي يتم تداولها بسرعة قياسية على شبكة التواصل الاجتماعي هي بصدد تصعيد مشاعر الإحباط واليأس من أي معالجة لهذا الداء الذي ينخر المدرسة كما ينخر بقية خلايا المجتمع وهو ما يعزز التطبيع مع الظاهرة التي أصبحت اليوم ركنا أساسيا من أركان المؤسسة التربوية.

وللتذكير فان العام الدراسي الحالي افتتح بابه يوم 15 سبتمبر 2024 على إيقاع العنف الشديد باستعمال سكين و الذي كان ضحيته تلميذ في إعدادية بمقرين (ولاية بنعروس) وفي إعدادية ببنزرت أين مارس تلميذ عنفا ضد زميله. 

ـ أستاذ يموت حرقا: الدلالات والرسائل

أثارت حادثة إعدادية الشابة جدلا قديما/جديدا في الشارع التربوي والشعبي وتداولت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الخبر والتعليق عليه والذي اتجه في الغالب نحو القراءة التقليدية التي تفسر الظواهر وتقترح الحلول لها بشكل جامد يستعيد نفس المعجم والبراديقم الأخلاقوي ذي الاتجاه الزجري/القمعي. وهذا "الحلّ السحري" هو الحلّ الجاهز والصالح لمعضلة الأخلاق وتدهور القيم وعدم احترام المدرّس وانتشار مظاهر الانحراف في المجتمع ، وكلها مظاهر تتطلب استعادة دور العائلة والمؤسسة التربوية والدينية والسلط الأمنية والقضائية...والمقصود بهذه "الاستعادة" هو ممارسة الأدوار القمعية، أدوار "المراقبة والمعاقبة" كما سمّاها الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو". 

إن المطلوب اليوم من الجميع وفي المقدمة مجموع الفاعلين التربويين هو حسن فهم ما يستجد أمام أعيننا و تحت أرجلنا من ظواهر ومظاهر كخطوة أساسية لصياغة تصورات المعالجة والتدخل.

إن إقدام أستاذ على حرق نفسه على خلفية سلسلة أحداث تمت له ومعه بحكم مهنته هي حادثة تستحق التوقّف. وأن يكون الأستاذ الراحل مدرسا لمادة "التربية الإسلامية" بما تحمله من خصوصيات تتعلق بمضمون المادة الذي يرتبط بمجال العقيدة وأحكامها التي تتراوح بين الحلال والحرام والمندوب والمكروه.

هذه العقيدة/الدين التي تتفق كل مذاهبها الفقهية دون استثناء، كما تتفق مع كل العقائد السماوية بتحريم قتل النفس أي الانتحار، تحريما بيّنا وقطعيا. إن هذا الفعل (فعل قتل النفس) هو الحالة القصوى التي يمكن أن يصلها الإنسان، وأن يكون هذا الإنسان مرتبطا عضويّا ويوميّا بمجال اهتمام عقائدي ، فهذا في حد ذاته يتطلب الوقوف والتمعن.

صحيح أن تدريس مادة ما لا يعني ضرورة التكريس الفعلي ل"تعاليمها" على الحياة الخاصة للمدرس، وهذا يتعلق بالمواد "الإيديولوجية" أو المؤدلجة بمعنى الحاملة لمضامين فكرية صريحة ومباشرة وهو ما يهمّ المواد الإنسانية عموما (الفلسفة،التاريخ،الأدب...) أو المواد التي ينسب إليها "الحياد" أي المواد العلمية والتقنية.

لكن مادة "التربية الإسلامية" بالذات اكتسبت مثلما اكتسب مدرّسوها سورة نمطية مخصوصة نوعا ما (stéréotype)، لذلك فأن يصل مدرس هذه المادة إلى الانتحار ففي الأمر دلالات أعمق وأقصى وجب الانتباه إليها بسرعة.

إن المدرس هو إنسان يؤثر وأيضا يتأثر، وحياة المدرس ليست فقط فكرا وأوراقا ودروسا يتلوها بما يمنح دوره امتيازا معنويا باعتباره منتجا للمعرفة. إن المدرس هو أيضا وضع مادي واجتماعي وعلائقي ومؤسسي محدّد في الزمان والمكان، وهذا الوضع هو على العموم متدهور بما ضرب في العمق المكانة الرمزية للمدرس ولدوره الاعتباري والمعنوي داخل المؤسسة التربوية وخارجها. إن هذا التراجع يجد اليوم تجلّيه فيما عاشه الفقيد "فاضل الجلولي" من انتهاك لكرامته ولخصوصية مهنته من خلال حملات الكترونية تصور التنمّر به وتوثق إهانته في المؤسسة وفي محيطها.

إن الصور الصادمة التي وقع ترويجها على منصات التواصل الاجتماعي تقدم صورة "جديدة" للمدرس أخرجته كليا من دائرة الوضع " الجليل" إلى دائرة "المخبول" الذي يجري وراءه صبيان الحيّ. إنها صورة تقطر فظاعة وتخرج التحول الحاصل في علاقة المدرّس بالمدرّس من المجال الميكروفيزيائي أي الفضاء الخاص/المغلق إلى المجال الماكروفيزيائي أي الفضاء العام/المفتوح. إنها وضعية قصوى عبّدت الطريق إلى وضعية أقصى وهي الموت حرقا.

ولم يكن في المشهد غير الأستاذ وتلاميذه، بل كان للأولياء نصيب من خلال انخراط بعضهم في التنمّر الالكتروني، لذلك أصبح الأستاذ حديث الخاص والعام في المدينة.

في خضم هذا الوضع المهزلي وعوض أن تتدخل الإدارة ممثلة في المندوبية الجهوية للتربية وإدارة المدرسة الإعدادية باعتبار الأستاذ من منظوريها ويُحمل عليها واجب حمايته، وهو ذات الدور المحمول على النيابة العمومية التي كما يدل اسمها يفترض تدخلها لوضع حد لانتهاك كرامة مواطن على قارعة الطريق وأمام الملأ. كما لم تتدخل نقابة الأساتذة بالقوة والحزم اللازمين في الوقت المناسب لوضع حدّ لما يجري خاصة وأن الأستاذ كان موضوع إساءة تعامل من قبل المندوبية الجهوية للتربية أين تعرض للمسائلة على خلفية المادة المنشورة على شبكة الانترنيت وهو ما يشكل في حد ذاته خرقا للقوانين إذ تم اعتماد توجيه "تهم" على أساس "دليل" غير قانوني (فيديو منشور على الشبكة)، كما تعرض للإساءة من قبل المصالح الأمنية لدى إدارة التصدي للعنف ضد الأطفال والمرأة عوض معاملته معاملة محترمة باعتباره "بريئا حتى تثبت ادانته" .

لكل هذا كانت النتيجة كارثية إذ وصل الأستاذ إلى حالة اليأس المطلق فألهب النار في جسده بعد أن نشر هو بدوره تسجيلا صرح فيه أنه يعاني من تنمّر تلاميذه وإهانتهم له كما أنه تعرض لسوء المعاملة من قبل المصالح الإدارية والأمنية. 

إن ما ندوّنه ليس من محض الخيال بل هو إعادة تركيب للأحداث كما جرت واقعيا، وهي أحداث مأساوية تخفي ورائها معضلات جمّة يعيشها القطاع التربوي والمجتمع عموما من تنامي ظواهر العنف بمختلف أشكاله وأساليبه بما فيها المستجدة مثل التنمر الالكتروني الذي أصبح اليوم يخرج الممارسات العنفيّة من فضائها الضيق أي فضاء المؤسسة التربوية إلى الفضاء العام لتشارك في مواكبته والاطلاع على تفاصيله وترويجه أطراف أوسع مثل الأولياء والأقارب وأبناء/بنات الحيّ وعموم جمهور شبكة التواصل الاجتماعي.

وان حادثة مقتل الأستاذ "فاضل الجلولي" تحمل فضلا عن الدلالات المستعرضة رسائل عاجلة وحارقة إلى مختلف الفاعلين التربويين والى الدولة والمجتمع حول حجم العنف وتحولاته .

إن الأستاذ الراحل ليس الأول الذي ينتحر أو يعيش وضعا نفسيا متدهورا لعدة أسباب بما في ذلك مشقة مهنة التدريس، لكن المستجدّ هو الموت حرقا على خلفية حملة تنمّر الكتروني ضده من قبل تلاميذه الذين أظهروه في أسوأ الصور التي يمكن أن يظهر عليها إنسان فما بالك بمربّي. إننا بصدد تحوّل في أشكال العنف و في تداعياته و نتائجه التي لم تكتفي هذه المرة بالإيذاء، بل وصلت حد الموت/القتل. (يتبع)