وثائقي

الأستاذ عبد اللطيف الحناشي : تأسيس الإتحاد كان  تعبيرا عن التطلّعات الوطنية العامة للشعب التونسي

الشعب نيوز/ أبو خليل - بمناسبة الذكرى 79 لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، قدم الأستاذ عبد اللطيف الحناشي أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية محاضرة بين في مستهلها أن التجـربة النقابية التونسية تجربة فريدة ومتميزة، حيث يُـعدّ الاتحاد العام التونسي للشغل من أعرق المنظمات النقابية في الوطن العربي وأفريقيا إذ عرفت تونس التنظيم النقابي منذ فترة الاحتلال(1881-1956).

فقد كان لوجود المنظمات النقابية الفرنسية دورا مهما في صقل تجربة النقابيين التونسيين الذي انخرطوا في تلك المنظمات وتمرّسوا في العمل النقابي الأمر الذي ساعدهم،لاحقا، في تأسيس أول نقابة وطنية وهي  جامعة عموم العملة التونسية (1924-1925) بعد أن يئسوا من إمكانية اهتمام النقابات الفرنسية بالدفاع عن حقوقهم المشروعة.

تراكم أولي

لم تستمر هذه التجربة طويلا وتوقف نشاطها  بعد ان سلطت الأجهزة الأمنية والقضائية والإدارية على قادتها عقوبات مختلفة منها النفي خارج البلاد التونسية ورغم كل ذلك شكلت هذه  التجربة تراكما أوليا للعمل النقابي الوطني استفاد منه العمال التونسيون سنة 1937 اذ استغلوا صدور القوانين التي تسمح بالنشاط النقابي بعد اعتلاء الجبهة الشعبية في فرنسا للحكم وعاودوا تاسيس المنظمة النقابية التونسية بأساليب ومفاهيم جديدة تتماشى وتطور المجتمع التونسي و الحركة الوطنية التونسية ذاتها و تجذر خطابها السياسي.

غير أن هذه النقابة لم تعمر طويلا بدورها وذلك نتيجة عاملين اثنين هما:
إصرار النقابة المحافظة على استقلاليتها تجاه الحزب الحر الدستوري التونسي، الديوان السياسي، ما أدى الى تعدد الخلافات بينهما وتفاقمها إلى حدّ الانفصال بل العداء (واقع العشرينات) وحتى استعمال العنف بين الطرفين في التجربة الثانية مع الحزب الدستوري، الديوان السياسي (واقع الثلاثينات ) برغم تصادم الجامعة مع إدارة الحماية التي رفضت تطبيق القوانين الاجتماعية التي سنتها حكومة الجبهة الشعبية على التونسيين في الوقت الذي أباحت ذلك للفرنسيين وكانت إضرابات عمال مناجم المتلوي و المظيلة (صيف 1937) وما نتج عنها من صدامات أدت إلى حصول قتلى وجرحى إلى جانب إضرابات بنزرت الأمر الذي أنهك هذه النقابة و من ثمّ اضمحلالها صيف 1938. 

آثار مختلفة
وبالرغم من  محدودية  الاستمرار في الزمن والنشاط غير ان التجربتين تركتا اثارا مختلفة ومنها:
- تنوع توجهات القيادة فكريا وسياسيا والحفاظ على الاستقلالية وكذلك ترسيخ قيمة التعاون الاجتماعي باعتباره ضرورة لإعادة بناء المجتمع على أسس متينة و سليمة واعتبار  النهضة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية  رافد أساسيا للحركة السياسية الرامية الى تخليص البلاد 
من براثن الاستعمار.  
وعلى خلفية تلك المبادئ والقيم، تاسس الاتحاد العام التونسي للشغل في ظرفية مختلفة (ما افرزته الحرب العالمية الثانية على الصعيد الوطني والعالمي) وكان وعي المؤسسين بتفاصيلها دقيقا فقاموا بتطوير  تلك المبادئ والبناء عليها 

طبيعة الاستعمار
من ذلك، تدارك احد أسباب الخلاف التي حدثت بين جامعة عموم العملة التونسية الأولى(1924-1925) ثم الثانية (1937) والحزبين الحر الدستوري - اللجنة التنفيذية والديوان السياسي - حول طبيعة العمل النقابي الوطني في وضع استعماري  وذلك على خلفية إدراك الشهيد فرحات حشاد  لطبيعة الاستعمار بأبعاده المختلفة من ناحية، و خصوصية المرحلة التي تمر بها الحركة الوطنية من ناحية أخرى لكن دون تذيّل لهذه الأخيرة  تماما كما استوعب جيدا طبيعة التحولات التي عرفها العالم ككل بعد انتصار الديمقراطيات وانهزام قوى المحور ... لذلك كان تأسيس الاتحاد  20 جانفي 1946 تعبيرا عن التطلّعات الوطنية العامة للشعب التونسي بأبعادها المختلفة. 
و لم يقتصر نضال الاتحاد العام منذ التأسيس على البعد الاجتماعي المطلبي، بل انخرط مباشرة في النضال الوطني العام، وأثَّر في أشكاله؛ بل حتى في خطابه ما يعني أن الاتحاد كان طرفًا أساسيًّا في الحراك السياسي الوطني العام؛ وتجسَّد ذلك في مشاركته في مؤتمر الاستقلال (ليلة القدر) الذي انعقد في 23 من اوت 1946( الموافق ليوم 26 رمضان 1365هـ). 
وقد كان أول مؤتمر جمع كل المنظمات والنخب الوطنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي طالبت لأول مرة وبشكل واضح وصريح باستقلال تونس.

جنبًا إلى جنب
وانطلاقًا من ذلك ناضَلَ الاتحادُ العام التونسي للشغل - جنبًا إلى جنب - مع الحركة الوطنية التونسية، وأدمج النضال الوطني بالنضال الاجتماعي، ولم يفصل بينهما على عكس رغبة النقابات الفرنسية وإدارة الحماية؛ اللذان حاربا هذا التوجه بكل الطرق، وهو ما أدى لاحقًا إلى اغتيال الأمين العام المؤسِّس للاتحاد فرحات حشاد. كما ساهم في بناء الدولة الوطنية باشكال مختلفة.
وبين  المحاضر أن  الاتحاد العام التونسي للشغل رسخ  طيلة تجربته التاريخية مجموعة من المبادئ النضالية والقيم التي تؤشّر لهذا الارتباط :
يتمثّل المبدأ الأول في البعد الاجتماعي:  ويتجسّد ذلك في الدفاع عن الشغالين بالفكر والساعد بمختلف أصنافهم تدعمها قيمة ومبدا التضامن بين المنتسبين للمنظمة وبين القطاعات وتعزيز الوحدة النقابية.
أما  المبدأ الثاني فهو  ذو بعد وطني يتجاوز هموم  الشغالين بالفكر والساعد ليشمل القضايا الوطنيّة العامة للشعب التونسي، وهو ما أعطى معنى عميقا للعبارة التاريخية الشهيرة التي توجه بها المؤسس ، فرحات حشاد إلى جميع التونسيين "أحبك يا شعب " وهو القائل أيضا: إنّ السياسة موجودة حيث ما كنّا، وإنّنا إذا ما حاولنا تجاهلها فإنّها لن تتجاهلنا".
المبدأ الثالث يتعلق باستقلالية المنظمة: وقد نشأ هذا المبدأ وترسخ كقاعدة عمل تمسكت المنظمة بتجسيده في الممارسة بحسب الظروف و الإمكانيات، في السياق الاستعماري أولا ثم في سياق الدولة الوطنية. 

فكرة وقيمة مركزية
المبدا الرابع : وحدة المنظمة والتضامن بين منتسبيها:شعار الاتحاد.
المبدا الخامس  الديمقراطية : باعتبارها فكرة وقيمة مركزية خاض النضال من اجلها  في وقت مبكّر نسبيا إذ نص الفصل الثاني من القانون الأساسي لهذه المنظمة على انه من أهدافها "..الدفاع عن الحريات الديمقراطية العامة والحقوق الطبيعية للفرد…"كما طالب الاتحاد من الإدارة الاستعمارية "ضمانات دستورية وطالب بانتخابات حرة و"بعث نظام تمثيل ديمقراطي"و أكد "الدفاع عن الحريات الديمقراطية العامة والحقوق الطبيعية للفرد.

وتوفرت في مختلف  هياكل الاتحاد العام التونسي للشغل،وبشكل نسبي زمن بعد الاستقلال ،  ممارسة ديمقراطية ضمنت حق المنتسبين للهياكل النقابية في صياغة المواقف والبرامج و طبيعة التحركات و تعدد الآراء  والأفكار التي تتباين حينا ، داخل الهيكل  الواحد، وتتوحد غالبا في مضمون القرارات الأمر الذي مثّل إثراء للحرية ودفاعا عن الحقوق والحريات المقررة قانوناً لاختيار ممثليهم في حرية تامة برغم السلبيات التي تطفو أحيانا في خضمّ تلك الممارسة.

هدف اجتماعي سام
كما اكد من خلال مؤتمراته انه لا يمكن ان " يتيسر الوصول إلى هدف اجتماعي سام إلا إذا ضمنت الحرية والديمقراطية لكل فرد في مساعيه لتحقيق رفاهية المجتمع ورقيه واعتبر "  ان صفة الديمقراطي لا يمكن إطلاقها إلا على النظام الذي"يضمن المساواة للجميع أمام القانون ويكفل لكل فرد حرية كاملة لا تحدّ إلا بحرية الغير".                               

سادسا : الدفاع عن حقوق الإنسان:
كانت جامعة عموم العملة التونسية وفية للمبادئ الأساسية  لحقوق الإنسان،في المجال النقابي، حتى قبل أن يظهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،وكانت هياكلها مفتوحة للجميع  فسمحت للأجراء دون تمييز بينهم،في العرق أو الدين أو الطائفة الانخراط في هياكلها وذلك من اجل الدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية.
 و حافظ الاتحاد العام التونسي للشغل، وريث التجربة النقابية الأولى على ذاك المبدا مع تطويره تبعا لتطور القيم الإنسانية العامة إذ نص الفصل الثاني من القانون الأساسي لهذه المنظمة على انه من أهدافها "..الدفاع عن الحريات الديمقراطية العامة والحقوق الطبيعية للفرد. وقد أكد فرحات حشاد هذه المسالة ووضعها في إطارها التاريخي والسياسي متسائلا "ما هو مصير العمل النقابي والحريات، التي يطمح إليها جميع الناس على وجه البسيطة،وهي غير مضمونة؟ وما هي قيمة الانجازات الاقتصادية والاجتماعية لدى شعب محروم من محاسن الديمقراطية؟ ثم ما هو مآل حركة نقابية  في بلد انعدمت فيه وقد أكد الاتحاد على "الدفاع عن الحريات الديمقراطية العامة.

مفهوم يتجذر
ومنذ بداية السبعينيات من القرن الماضي اخذ هذا  المفهوم "يتجذّر"ويلامس أبعادا جديدة إذ أخذت أدبيات الاتحاد تتحدث عن العدالة الاجتماعية بمفهومها الشامل واعتبرت المنظمة  ان نجاعة العمل المشترك مع الحكومة "لا تتوفر إلا على أساس الاستقلال بالعمل أي حرية العمل النقابي في دائرة احترام الصالح العام والتي تندرج فيها حرية القول والتعبير والاجتماع والصحافة  كما نص عليه دستور البلاد وتماشيا مع نظامنا الجمهوري.
  يُبدي الاتحاد العام التونسي للشغل، من خلال أدبياته المختلفة، اهتماما كبيرا بمسالة حقوق الإنسان وقضاياه المختلفة وتبني أغلب الحقوق التي أصدرتها منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها من ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.  
سابعا :الانحياز للقضايا العربية ولقضية فلسطين وقضايا التحرر في العالم  

تضامن في كل الاتجاهات
كما كانت للاتحاد مواقف مساندة ومتضامنة مع حركة التحررفي افريقيا عامة والمغاربية من ذلك أن الاتحاد شن إضرابا عاما يوم  10 مارس 1951 بالاشتراك مع الحزب الدستوري الجديد تضامنا مع الوطنيّين بالمغرب الأقصى وضد سياسة المقيم العام هناك. وبتلك المناسبة أكد حشاد: "إن الوحدة المغاربية شيء واقعي وعميق لا جغرافي فقط و إنما وحدة في المُصاب الذي سلطه الاستعمارعلى أقطارنا المغلوبة على أمرها ...لذلك فالمطلوب، يقول حشاد هي وحدة الكفاح في سبيل الحرية والعدل و العزة والكرامة. كما ساند الاتحاد بقوة  الثورة الجزائرية (دور احمد التليلي) وساند مصر أثناء تعرضها للعدوان الثلاثي واثرعدوان 1967 وحرب 1973 ...تماما كما ساند قضية الشعب الفلسطيني بأشكال مختلفة...
ثامنا: التضامن الدولي (العلاقات الدولية)
‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ربط الاتحاد علاقات دولية واسعة مع المنظمات الدولية ذات العلاقة بعالم العمل كالاتحاد الدولي للنقابات الحرة (1951) ومنظمة العمل الدولية (بعد استقلال البلاد) والنقابات الامريكية والأوروبية والافريقية وغيرها وساهم فرحات حشاد و واحمد بن صالح واحمد التليلي في  تأسيس العديد من النقابات الوطنية في افريقيا والعالم العربي.