آراء حرة

من يدعم من ؟ ... مفارقة دعم الناشرين بدل الكُتّاب في تونس

بقلم الشاعر محمد العربي - في كل دورة جديدة من دعم وزارة الشؤون الثقافية في تونس لاقتناء الكتب التونسية، تعود إلى الواجهة أسئلة قديمة لم تجد بعد إجابة عادلة: لماذا يُمنح الدعم مباشرة إلى الناشرين – وهم مؤسسات تجارية هدفها الربح – في حين يُترك الكُتاب، وهم الفاعلون الأصليون في العملية الإبداعية، على هامش المعادلة ؟.

صدر مؤخرًا عن وزارة الشؤون الثقافية بلاغ يدعو "مؤسسات النشر والمؤلفين الذين نشروا على نفقتهم الخاصة" لتقديم مؤلفاتهم ضمن دورة جديدة من برنامج الاقتناء.

وبعيدًا عن اللغة البيروقراطية، فإن ما يكشفه هذا البلاغ مؤلم: الدولة تساوي بين مؤسسة تجارية لديها موارد، وبين كاتب اضطر لنشر كتابه بماله الخاص، في غياب أي دعم أو اعتراف فعلي.

أن يُطلب من كاتب أن يتحمّل كلفة النشر، ثم يُعامل كمزوّد محتمل في سوق اقتناء الكتب، هو قلب كامل للعملية الثقافية. الكاتب ليس ناشر ظل، ولا شركة ناشئة، بل هو منبع الفعل الإبداعي.

فأي منطق يجعل الوسيط (الناشر) هو المستفيد الأساسي، بينما المصدر الأول (الكاتب) لا يُعامل إلا كطامع في فرصة هامشية ؟

دعم الناشر أم دعم الكاتب: الكاتب الحلقة الأخيرة في السلسلة

من حيث الشكل، يبدو البرنامج دعمًا لقطاع النشر، لكنه في جوهره دعم لمنتج تجاري لا لضامن الإبداع الحقيقي: الكاتب. فمؤسسة النشر هي وسيط بين الكاتب والقارئ، بينما الكاتب هو المصدر الأول للأفكار والإبداع.

ما معنى أن تشتري الدولة كتبًا من ناشر وتوزعها على المكتبات العمومية أو الفضاءات الثقافية دون أن تضمن أن الكاتب قد تلقى مقابلًا لائقًا؟ هل نكتفي بمجرد الشراء من السوق دون مساءلة من يستفيد فعلاً من المال العمومي؟

في الواقع، الكاتب هو الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة، وغالبًا ما يكون الأكثر تهميشًا. من النادر أن نجد كاتبًا تونسيًا يعيش من كتاباته، بل على العكس، كثيرون منهم يدفعون من جيوبهم الخاصة لنشر كتبهم. والأسوأ أن بعض دور النشر تفرض عقودًا جائرة أو تعامل الكاتب كزبون لا كشريك.

فإذا كانت الدولة تدعم هذه المؤسسات، أليس من الأولى أن تضع شروطًا واضحة تُلزم الناشرين بتخصيص نسب من الدعم تذهب مباشرة إلى الكُتاب، لتصبح العدالة الثقافية فعلًا ملموسًا لا شعارًا يُرفع فقط؟

الاقتناء والدعم الحقيقي: الكاتب الغائب في معادلة الدعم الثقافي

الاقتناء، بمعناه الإداري، هو شراء الدولة كميات من كتب مختارة، لكن هل هذا فعلاً دعم للثقافة؟ أم مجرد تحريك لركود السوق؟ أين دعم الإنتاج الإبداعي، الترجمة، إقامة الكتابة، ، والتحفيز النقدي؟ وأين الجوائز الأدبية الجادة التي تشجع على الإبداع؟

الكاتب، في هذه المعادلة، غالبًا ما يكون غائبًا رغم حضوره، فلا حفلات توقيع تُنظّم له، ولا دعاية تُبذل، ولا اعتراف مادي حقيقي يُمنح له.

العقود التي يوقّعها مع دور النشر تبقى في كثير من الأحيان حبرًا على ورق، لا تُنفذ ولا تُحترم، لينتهي الأمر بأن يتسلم الكاتب بعض النسخ فقط، بينما يتمتع الناشر بكل دعم الورق والتوزيع والمقتنيات.

حقوق المؤلف تتحوّل إلى مجرد شعار ترفعه الوزارة، لا إلى سياسة فعلية تحكم العلاقة بين أطراف الإنتاج الثقافي. هذا العبث المستمر ليس مجرد خلل إداري، بل هو تقويض حقيقي للثقافة نفسها.

من التجارب الناجحة إلى سياسات ثقافية فاشلة في تونس

في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، توجد سياسات ثقافية متطورة تضع الكاتب في قلب الدعم الثقافي الحقيقي ففي فرنسا، يعمل المركز الوطني للكتاب (CNL) على منح دعم مباشر للكتّاب، ويشركهم في لجان التقييم، إضافة إلى تقديم منح للإقامة الأدبية ودعم الترجمة، مما يعزز حقوقهم وحضورهم في المشهد الثقافي.

أما في الولايات المتحدة، فتقدم برامج حكومية وخاصة منحًا مالية مهمة تصل أحيانًا إلى عشرات آلاف الدولارات، لدعم المشاريع الإبداعية المستقلة للكتّاب بعيدًا عن وسيط النشر فقط. كذلك تقدم كندا عبر Writers’ Trust منحًا سخية تصل إلى 50 ألف دولار كندي للمؤلفين، ما يتيح لهم التركيز على إنجاز مشاريعهم الأدبية مباشرة.

في المقابل، تعاني السياسات الثقافية في تونس من إخفاقات واضحة تنعكس في تحييد الكاتب وتهميش دوره في عملية الدعم إذ تحصر أغلب البرامج الدعم في الناشرين فقط، متجاهلة أن الكاتب هو المصدر الأول للإبداع، ما يحوله إلى الحلقة الأخيرة والأضعف في سلسلة الإنتاج الثقافي.

كما تغيب الآليات الواضحة التي تضمن حقوق المؤلفين، سواء من حيث العقود أو نسب الدعم المالي، مما يُضعف من قدرتهم على الاستمرار في الإبداع. ولا تتوفر شفافية كافية في توزيع الدعم، ولا توجد منصات وطنية توضح كيف وأين تُنفق الأموال العامة المخصصة للثقافة.

علاوة على ذلك، يغيب الدعم الفعلي للكتابة، والترجمة، والتدريب، والتحفيز النقدي، حيث تقتصر البرامج في الغالب على اقتناء الكتب بشكل إداري لا يعد دعمًا حقيقيًا للإبداع.

هذه السياسات تعكس إهمالًا عميقًا لمكانة الكاتب في منظومة الإنتاج الثقافي، ما يضعف الثقافة الوطنية ويهدد استدامتها.