تحرّي

في سفاهة الهجمة: تركوا السبب، قلت حجتهم، وصلوا الى شطط المطالب واستنكروا سخاء الاجور

[ الشعب نيوز/ وسائط – هذا نص كتبه الأخ سامي الطاهري الأمين العام المساعد ونشره على صفحته الخاصة تعقيبا منه على هجمة سفيهة شارك فيه بعض ممن هم غير جديرين بالوصف والتعريف على عمال قطاع النقل ونقاباته. واكشف حقدهم الاعمى وتخبطهم عندما نجح الاضراب 100 بالمائة رغم كل محاولات التكسير والاجهاض مجتمعة.

النص طويل نسبيا، قسمناه في قسم التحرير الى نصوص فرعية وذلك حتى نسهل القراءة في الجزء او في الكل على من يرغب في ذلك.]

 لو عالجوا السبب، لانتفى عندهم العجب  

بداية، النقابيون ليسوا ملائكة. ولكنّهم ،بكلّ تأكيد، ليسوا شياطين. إنّهم بشر يخطئون ويصيبون. وهم جزء ثابت من الشعب يمثّلون أغلب شرائحه وفئاته وطبقاته من صانعي الثروة .

انتهى منذ ساعات قليلة الإضراب الشرعي والقانوني والاضطراري لقطاع النقل (30و31 جويلية و01 اوت) وقد عاد السواق وبائعو التذاكر وفنيو الورشات والاداريون والمراقبون وكل أعوان هذا القطاع الاستراتيجي إلى عملهم، كلّ في موقعه، في خدمة المواطن الذي يحتك أغلبهم به مباشرة ووجها لوجه ليلا نهارا.

كلّ صنوف العلاقات

تحصل بينهم كلّ صنوف العلاقات من ود وعشرة وألفة وتآلف وتعاون وتفهّم وأيضا من تشنج وتصادم يصل أحيانا إلى حصول اعتداءات على الأعوان لأسباب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. يعني علاقات مواطنة يومية عادية تقوم بين مكونات شبكة اجتماعية من العلاقات تفرضها الضرورة، والحاجة، وتبادل الخدمات والمنافع.

ويحدث أن تتوقّف هذه العلاقة المتشعّبة لأمر ما، كالإضراب مثلا، فتتدخل "اطراف"/ عناصر خارجية تعمل على تحويل هذا التوقّف المؤقت والظرفي والاضطراري إلى شرخ عميق وتسعى إلى جعله صراعا وصداما لا ينتهي ليكون عون النقل - وفي حالات أخرى أعوان قطاعات الصحة والتعليم والبريد والكهرباء والمياه وسائر الخدمات العمومية والاجتماعية - في تصادم وصراع مع المواطن مباشرة.

يختفون ويصيبهم العمى

في المقابل، تختفي بقية عناصر الفعل الاجتماعي وأهمها السلطة وبعض أجهزة الدولة المرتبطة. كما تختفي بعض شخوص مسرحية يقتضيها النصّ والحبكة، فيتمّ تجاهل متعمّد للأسباب والمسببات والعلل.. ويُعزل الحدث/ النتيجة بشكل ممنهج عن الدوافع والاسباب.

تصحب كل ذلك، وعن عمد، حملة شعواء من الشيطنة والتحريض مجهزة بترسانة من الأخبار الزائفة والتضليل والمغالطات والتشويهات والأكاذيب والأراجيف والقذف والتشهير والتحريض والتجييش والشيطنة والحقد والكراهية والتباغض والتخوين حتّى تعالت أصوات بعضهم من الموتورين بدعوات حلّ الاتحاد وسجن آلاف النقابيين.

هذا تماما ما حدث خلال الأيام الثلاثة من إضراب النقل وهو ما يحدث في كلّ مناسبة إضراب أخرى، فيتباكى هؤلاء مثلا على المتقاعدين عندما يضرب البريديون عندما يحين موعد صرف الجرايات… وفي حركة آلية "سيستيماتيك" يتمّ استغلال معاناة المواطن وتوظيفها لاستدرار التعاطف والمسكنة.

 ما استعادوا من "حليمة" الا عاداتها القديمة

نظنّ أنها "عادة حليمة" التي لن يقع الإقلاع عنها ولن تنقطع طالما ليس هناك وعي لدى عدد كبير من الناس وعلى رأسهم "نخب" السلطة بوجوب احترام الحقوق والقوانين ومنها الحقّ في الإضراب باعتباره حقّا دستوريا علاوة على أنه حقّ دولي سنّته معايير العمل الدولية واتفاقياتها التي وقّعت على أغلبها الدولة التونسية منذ الستينات من القرن الماضي.

وقد اعتمد أصحاب الحملة على مقولات كلاسيكية وتهم تقليدية تفتقر للابتكار والعقلانية والواقعية وتحمل مغالطات كبيرة للرأي العام بهدف زعزعة ثقته وتأجيج غضبه وتوجيه ضدّ منفّذي الإضراب بدل المتستبّبين الحقيقيين فيه. ومن هذه المغالطات الممجوجة:

من إرادة الاعوان

  • الإضراب غير شرعي وغير قانوني ومباغت للمواطن: للرد على هذه المغالطات، نذكّر أنّ قرار الإضراب قد صدر بعد أسابيع من الاجتماعات العمّالية العامة واللقاءات النقابية المتعدّدة سواء في مقرّات العمل او في مقرّات الاتحاد وجابت الجامعة العامة للنقل البلاد طولا وعرضا واستمعت لانتظارات الأعوان واستجابت لطلباتهم، وهو بذلك إضراب يستمدّ مشروعيته من إرادة الأعوان ولم يقرّره المكتب التنفيذي ولا غيره من الهياكل، وإن كانوا يتبنّوه ويساندوه، وإنّما كان القرار نابعا من القواعد ومؤطّرا من هياكلهم القطاعية، على عكس ما يروّج البعض بأنّه يندرج ضمن أجندا ابتدعوها من خيالهم المريض وأدخلوه في خانة ما تتوهّمه نفوسهم من هلوسات التآمر وغيرها.
  • وهو أيضا إضراب يفرض شرعيته من أحقّية المطالب وجدّيتها وواقعيّتها واستحقاقها. أما من حيث المفاجأة او المباغتة فنؤكّد أنّ وزارة الإشراف وجميع السلط المعنية قد أُخطِرت منذ أشهر بتوتّر الوضع الاجتماعي وبالحاجة إلى تجاوز ذلك عبر تفاوض جدّي ومسؤل، كما أن الراي العام على علم بكثير من الحيثيات عبر الإعلام ولا عذر لأحد بعد ذلك.

وزارتان و15 مؤسسة

  • وأمّا عن القانونية، فقد تم إبلاغ وزارة الإشراف ووزارة الشؤون الاجتماعية والتفقدية العامة للمصالحة وإدارات مؤسّسات النقل البري جهويا ووطنيا قبل الآجال القانونية عبر برقية التنبيه بالإضراب منذ 16 جوان 2025 ونشرت في الصحف وفي وسائل الإعلام السمعية والبصرية وفي المواقع الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، وسبقته برقيات أخرى تم تأجيل تنفيذها لإعطاء فرصة للحوار. ممّا يعني في المحصلة أنّ الجميع كان على علم وبينة بالحيثيات والمطالب والتواريخ والمواعيد والمواقيت فالكل قد تمّ تنبيه إلى الحدث، حتّى أنّ بعض المؤسّسات والأشخاص قد عدّلوا مواعيدهم على ضوء ذلك.
  • - الإضراب أضرّ بمصالح المواطنين خاصّة أنّ مستعملي النقل العمومي من العمّال والموظفين و"الزواولة: تستغل بعض المنابر الإعلامية وبعض المدونين في شبكات التواصل الاجتماعي هذه المقولة باستمرار وتكرار واجترار للتحريض ضد الإضراب وتذهب بعض وسائل الإعلام بعيدا في تجنيد أعوانها للخروج إلى الشارع وتصيد الحالات عبر أسئلة موجهة واستجداء إجابات لإظهار معاناة المواطن، التي هي بالمناسبة معاناة دائمة سواء بالإضراب أو من دونه، ولتصوير الضرر الذي حصل بسبب التوقف عن العمل بمناسبة الإضراب مع شيء من المبالغة، فتظهر مسنّة هنا ومسنّ هناك ومتنقّل من أقاصي البلاد وغيرها من الحالات …وكذا من مستلزمات تأكيد المقولة أعلاه.

سلسلة لا تنتهي من الفرص

  • نقول، بالتأكيد إنّ لكل إضراب تداعيات وخسائر وآثار سلبية وإلاّ لما كان هناك حوار وتفاوض ولما وضع المشرّع للإضراب آليات لتفاديه باعتباره "أبغض الحلال" ومنها المهلة القانونية للإعلان عن الإضراب في برقية تسمى قانونيا "برقية التنبيه بإضراب" لترك الفرصة للطرف أو الأطراف الأخرى لتدارس المطالب وإقامة الحوار والتفاعل وتجنب الإضراب، كذلك تعقد الجلسات الصلحية التي تسبق الإضراب وقد تجرى إلى آخر الساعات السابقة لتنفيذه، وقد تتوّج غالبا باتفاقيات (يحصل أن يتمّ إلغاء أكثر من 80٪ من الاضرابات بعد التوصّل إلى اتفاقات حسب إحصائيات وزارة الشؤون الاجتماعية ولكم أن تعودوا مثلا إلى عدد الاتفاقيات التي تمّ إمضاؤها في الأسابيع الأخيرة والتي قضت بإلغاء الإضرابات) كلّ ذلك آليات وضعها المشرّع وجرت بها العادة الحميدة من أجل تفادي تداعيات الإضراب وتجنّب ما قد يحصل بسببه من خسائر ومن ضرر وقد راكمت بلادنا في ذلك تقاليد مشهود لها في بلدان كثيرة، لذلك ليس بدعة أن ينفّذ الإضراب رغم العلم بآثاره التي لم يسع المشغّل في هذه الحالة لتجنّبها عبر التفاعل الإيجابي وعدم التجاهل وحسن التفاوض والابتعاد عن المناورات وترك الحيل بعيدا.

  12 ساعة من المفاوضات قلت فيها حجتهم

نفس  الأصوات التي تتحدّث عن معاناة المواطن بمناسبة إضراب بيوم أو يومين نراها في الغالب صامتة عن معاناة المواطن كل يوم وساعة وكل دقيقة وهو يجري وراء حافلات أو عربات مترو مكتظة، أبوابها مشرعة ونوافذها مهشمة ومحركها قد يتوقّف نبضه في كلّ لحظة، وحافلة أخرى تتأخر لمجرّد عطب بسيط وأخرى يُلغى خطها لعدم توفر حافلة حتى حرم التلاميذ والطلبة أحيانا من النقل المدرسي والجامعي ورابعة لم تخرج من المستودع لعدم توفر قطع الغيار مع صيانة عسيرة لانعدام الإمكانيات ونقص الموارد البشرية.

"حيل مهدود"

تضاف إلى جانب بنية تحتية مهترئة وظروف عمل سيّئة (عاين بعضها رئيس الدولة في أحد المستودعات) وغيرها من المشاكل الكثيرة والمعقدة لمؤسسة عمومية أنهكها الارتجال و"هدّت حيلها" السياسات والخيارات التي كانت ومازالت تستهدف القطاع العام للتفويت فيه وغيّبها، عمدا، أصحاب التحاليل الجهابذة إرضاء للسلطة وراحوا يكيلون التهم للأعوان وكأنّ الأعوان هم الذين يسيّرون هذه المؤسّسات ويديرونها ويضعون استراتيجياتها ويتصرّفون في أموالها، في حين كشفت النقابات كل هذه الأوضاع البائسة واطلقت النداء وراء النداء وقدّمت الحلول والمبادرات وبسبب ذلك أحيل نقابيو النقل على المحاكمات وتمّت هرسلتهم والتنكيل بهم. وسيظلّ الاتحاد العام التونسي للشّغل مدافعا عن المرفق العمومي باعتباره أحد ركائز الاقتصاد ورافعة من الروافع لتحقيق الدولة الاجتماعية|

تسييس ، تجييش، تفتيش

الإضراب مسيس: تقفز هذه التهمة الجديدة القديمة باستمرار ولا يخجل أصحابها من رميها في وجوه العمال كلما عجزوا عن تبرير استهتارهم بالمطالب وتجاهلهم للطرف النقابي وسوء إدارتهم للنزاع الشغلي وعجزهم عن حلّ الأزمة الاجتماعية وهو ما حصل في إضراب النقل الأخير على سبيل المثال إذ تعالت أصوات سياسيين وإعلاميين ومناصرين للسلطة بنعته بالإضراب السياسي، مغيبين المطالب المشروعة الموقّع عليها في محاضر الجلسات بين الاتحاد والأطراف الحكومية وآخرها محضر الجلسة مساء 30 جويلية 2025 اي ساعات قليلة قبل الإضراب والذي سجّل فيه الطرف النقابي حرفيا "وبناء عليه قرر الطرف النقابي مرغما، سطر على عبارة مرغما، تنفيذ الإضراب.." ووقّع على ذلك وزير الشؤون الاجتماعية وممثلو الحكومة.

" وانت وينك؟"

فإذا كان الإضراب مسيسا فلماذا تعقد بسببه الجلسات وراء الجلسات وبعضها استمر أكثر من 12 ساعة؟! وكيف لم تتفطّن الأجهزة إلى الطابع "السياسي" لهذا الإضراب؟ وهل قطاع بعشرات الآلاف من الأعوان يحمل كل هذه الشحنة السياسية المزعومة؟

أسئلة كثيرة تعرّي الاستغباء الذي يستخدمه البعض لمواجهة الاحتجاجات الاجتماعية وتكشف عن العجز وافتقاد الحجّة وقصور المنطق واللجوء القاصر إلى المغالطة وتزوير الحقائق.

 فقالوا ورددوا " لا عاد  موش في وقتو "

 الإضراب "موش في وقتو"  مقولة أطلقها  بعضهم وبها يزيدون في المغالاة فيقولون إنّه جاء في هذا الحرّ الشديد وزاد من معاناة المواطن، والحال ان لا النصوص القانونية التونسية والدولية حدّدت أزمنة ومواقيت الإضرابات ولا التقاليد النقابية والعمّالية نصّت على تفادي الإضرابات حسب الفصول، فالمحدّد في مواعيد أيّ إضراب الاستعدادات الخاصّة بالعمّال وهياكلهم النقابية واختيارات التواريخ المناسبة لممارسة الضغط القانوني والمشروع من أجل فرض الحوار والتفاوض والتوصّل إلى تحقيق المكاسب، ولكم، وكثيرون يحبّون التشبّه الانتقائي بالبلدان المتقدّمة، في الإضراب الشامل للنقل البرّي والجوّي في فرنسا بالتزامن مع مناسبة كأس العالم لكرة القدم (والذي نُفّذ في بعض المدن بغلق الطرقات السيارة والطرقات الحزامية) إذ لم ينعتهم أحد بالخيانة ولا بضرب المصلحة الوطنية ولا اتهمتهم بأنّ الإضراب "موش في وقتو".

أسوأ الذكريات

- الإضراب خرقٓ قانونيْ الطوارئ والتسخير : من الضروري التذكير بأنّ للنقابيين مع أمر الطوارئ عدد50 لسنة 1978 الصادر يوم 26 جانفي 1978 أسوأ الذكريات إذ سنّته حكومة بورقيبة على إثر تصاعد الأزمة الاجتماعية وقرار الإضراب العام سنة 1978 وذهب ضحيّته مئات النقابيين بين شهيد وجريح وسجين ومطرود ومشرّد. ونصّ هذا الامر الجائر على:

- منع تجوّل الأشخاص والعربات

- فرض الإقامة الجبرية بأمر من وزير الداخلية

- مراقبة الاعلام والمنشورات

- تفتيش المحلاّت دون إذن قضائي وفي أيّ وقت

- حظر الاجتماعات التي قد تخلّ بالأمن العام

ومن الواضح أنّ كل هذه البنود غير مطبّقة منذ تجدّد استخدام هذا القانون بعد 14 جانفي 2011 عدا الأشهر الأولى من الثورة وظلّ بعدها الجولان عاديا ولم تتمّ مراقبة الإعلام والمنشورات ونادرا جدّا ما مُنعت الاجتماعات فضلا عن عدم المساس بالإضراب عموما، فكيف يعنّ للمحرّضين والمجيّشين اليوم تذكّر أمر الطوارئ وانتقاء فصل يتيم متروك منه، لا لشيء إلاّ بغاية ضرب حقّ الإضراب. وللتذكير فقد سعت أغلب القوى الوطنية والديمقراطية إلى المطالبة بتغيير هذا الامر الاستبدادي وغير الدستوري لأنه يحدّ من الحريات ويمنع الحقوق ومنها الحقّ النقابي بما في ذلك حقّ الإضراب.

قوانين، أوامر وممارسات غير شرعية

وللأسف يستمرّ، بلا موجب، تمديد العمل بهذا الامر الجائر. ومن يستدلّ به لمعالجة نزاع شغلي وأزمة اجتماعية فهو، بالعبارة الشهيرةً، إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على الفشل وعلى الحنين إلى الاستبداد.

واذا تعرّضنا إلى موضوع التسخير فحدّث ولا حرج، إذ بيّن الاتحاد منذ ما قبل 2011 لا شرعية هذا القانون ولا دستوريته لأنه يستعمل في مواجهة حقّ دستوري وهو حقّ الإضراب وقد سبق للمحاكم التونسية أن أصدرت أحكاما ببطلان قرارات التسخير معتبرة إيّاها مخالفة للدستور وللقانون. ومن حيث الشكل فانّ سوء استخدام التساخير خاصّة بعدم سيرها وفق الضوابط القانونية وبسبب الإخلالات الإجرائية الفاضحة يجعلها باطلة ومتهافتة، ولهذا يؤكّد الاتحاد على أن التسخير يجب أن يهدف فقط إلى ضمان الحدّ الأدنى من الخدمة في " المصالح الأساسية" التي قد يؤدّي توقّفها إلى تهديد صحّة أو حياة المواطنين، ولعلّ قطاع النقل من الأمثلة التي لا يمكن اعتبار توقّف خدمتها مؤدّيا إلى هذه النتائج فالحافلات ليست سيّارات إسعاف لتخضع للتسخير.

عن أي حد أدنى تتحدث؟

ولو افترضنا ان نبقي بعض الحافلات في الخدمة فمن من الركّاب سيشملهم تقديم الخدمة وعلى أيّ قاعدة تسمح لهذا المواطن بالركوب ولا تسمح للآخر بذلك؟

من العبث الحديث هنا عن "الحدّ الأدنى من الخدمات" الذي تؤمّنه في حالات أخرى العديد من النقابات تلقائيا وفق تراتيب تخطّها لتنظيم إضراباتها، كالصحة والفلاحة والمياه والكهرباء والصيدلة وغيرها من القطاعات التي ترتبط بالحياة أو الصحّة أو الأمن. إنّ التسخير ليس إلاّ إجراء تصعيديا من جانب الحكومة يزيد من توتّر الوضع الاجتماعي وتأزيمه بدلا عن البحث عن الحلول عبر الحوار والتفاوض. وعليه فالتسخير ليس إلاّ أداة غير قانونية للحدّ من ممارسة حقّ دستوريّ وللضغط على العمل النقابي وإرباك الاتحاد كما كان ذلك كذلك ذات 26 جانفي.

وصلوا الى "شطط " المطالب واستنكروا "سخاء "الأجور

من المفرح أن نعلم بوجود أجور مرتفعة في أيّ قطاع فهذا مدعاة لتأكيد مبدأ طالما ناضلت من أجله الحركة النقابية والحركات الاجتماعية "أجر عادل/ مجز مقابل عمل لائق"

والحديث عن الأجر المجزي لا يعني الحدّ الأدنى من الأجور، بل أجرا يكفل للعامل وأسرته حياة كريمة ويجعله يجابه الغلاء والتضخّم ويعكس قيمة العمل الذي يؤدّيه العامل والجهد الذي بذله يدويا او فكريا. ويكون العمل اللائق غير مرتبط فقط بالأجور، بل أيضا بظروف العمل وبصحة العامل ورفاهه وكرامته.

وللعلم فقد ارتقت المفاهيم اليوم إلى التحول من المطالبة بضمان الأجر المعيشي living wage إلى المطالبة بأجر الرفاه  tracing wage الذي لا يكتفي بضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء بل تحقيق الرفاه والازدهار كخطوة في اتجاه عدالة اجتماعية أعمق، وهو ما نتمنّاه لكلّ الأجراء.

هي الأضعف في المنطقة

لكن هل يعيب القطاع ارتفاع أجور عمّال النقل إلى حدّ تجاوزها أجر كادر كبير من كوادر الدولة على حدّ تعبير أحد المتابعين، لو افترضنا صحّته، وهو افتراض غير صحيح؟ وهل هو موجب لمنعه أعوان النقل من مزيد تحسين أوضاعهم المهنية؟

إنّ كلّ الدلائل والتحاليل تؤكّد أنّ الأجور في تونس هي الأضعف في المنطقة  فالأجر الأدنى في تونس بنظام 48 ساعة لا يتجاوز 460 دينار أي 147 دولار بينما الأجر الأدنى في المغرب على سبيل المثال يقدر بحوالي 3120 درهم أي ما يعادل 310 دولار أي أكثر من ضعف الأجر الأدنى في تونس هذا دون الحديث عن وضع مئات الآلاف من المتقاعدين إذ أنّ أكثر من نصف متقاعدي القطاع الخاص يتقاضون جرايات أقل من الأجر الأدنى بما يعني أنّهم يعيشون تحت خطّ الفقر و70٪؜ من متقاعدي صندوق الضمان الاجتماعي لا تتجاوز جراياتهم 600 دينار ولذلك تظلّ المطالبة بترفيع الأجور في تونس حقّا مشروعا فضلا عن الانعكاسات الإيجابية لذلك على الاستهلاك وعلى زيادة الطلب وعلى الاقتصادي عموما.

اختلاق الإشاعات وزرع الفتن

إنّ كلّ هذه المغالطات، وغيرها مما يبلغ حدّ الطيش والسفه التي لم أشأ التعرّض إليه، تختبئ وراءها ماكينة دعاية ومصنع اختلاق الإشاعات وزرع الفتن وتأليب المواطنين بعضهم ضدّ بعض وإشغال الناس عن حقوقهم؛ هجمات لم تتوقّف عبر عقود وزاد سعيرها بعد 2011 في ظلّ الحكومات المتعاقبة باختلاف الوانها وأقنعتها وستستمرّ لأنّ خيارات هذه الحكومات جميعها ليبيرالية خادمة لرأس المال، ولطالما ارتفع صوت العمّال للمطالبة بحقوقهم وطالما استمرّ الاتحاد العام التونسي للشّغل في الدفاع عن حقوق العمّال بالفكر والساعد والمتقاعدين منهم وكذلك عموم الشعب.

ملاحظتان

عذرا على طول النصّ (في صيغته الكاملة ) وعلى أسلوبه، فقد استدعى الظرف ذلك واستوجبت الحملة الهوجاء الردّ، كما فرض الحصار الإعلامي ضرورة إنارة الجميع خارج صندوق الإعلام الذي أصبح عدد منابر الحوار السياسي والاجتماعي فيها صفرا وما تبقى في غالبه بعيد عن الموضوعية والحرفية.

اعتذار ثان بعد إلحاح أحد الأخوة على طول النص، وقد نصحته بقراءته على مراحل. وبالمناسبة شكرا لقسم التحرير الذي وضع العناوين الاساسية والفرعية وقسم النص الى نصوص قصيرة منشورة هنا في الموقع وفي عدة صفحات و قابلة للقراءة السريعة.