وطني

قراءة أولى في مشروع قانون المالية لسنة 2026 : موازنة بلا أفق… وتنمية مؤجّلة

الشعب نيوز/ باقلام النقابيين - يأتي مشروع قانون المالية لسنة 2026 في ظرف اقتصادي شديد الحساسية، حيث تتقاطع أزمة الثقة مع تراجع النمو واحتدام التحديات الاجتماعية. ورغم الوعود الكبيرة لمخطط التنمية 2026–2030 بتحقيق التحوّل الاقتصادي وتعزيز العدالة الجهوية والاجتماعية، يكشف مشروع القانون عن خيارات مالية محافظة ورؤية اقتصادية غامضة لا ترتقي لمواجهة التحديات الراهنة.

أولًا: منطق التصرّف بالأمر الواقع بدل التخطيط للمستقبل

تعتمد الفلسفة العامة للمشروع على التقليص من العجز بأي ثمن، بدل دعم الإنتاج وتحريك عجلة النمو. فبدل أن يكون قانون المالية أداة لتنفيذ المخطط الوطني للتنمية، تحوّل إلى تمرين محاسبي يهدف إلى تغطية العجز عبر موارد إضافية مستنزفة وضرائب متزايدة، إضافة إلى تمويل مباشر من البنك المركزي يقدَّر بنحو 11 ألف مليون دينار.

ورغم أنّ هذا الخيار يسهم مؤقتًا في تمويل النفقات، فإنه يهدّد الاستقرار النقدي ويزيد من ضغوط التضخّم، ويقوّض استقلالية السياسة المالية للدولة.

ثانيًا: غياب رؤية اقتصادية متكاملة

رغم الشعارات المتكررة حول “الاقتصاد الأخضر”، و“التحوّل الرقمي”، و“التمكين الاقتصادي”، فإن المشروع يخلو من أي خطة قطاعية واضحة للنهوض بالصناعة أو الفلاحة أو الخدمات التكنولوجية.

فبدل أن يكون الاستثمار العمومي رافعة للنمو، بقي مشتتًا بين مشاريع تقليدية محدودة المردودية، بينما تُهمَل القطاعات القادرة على خلق القيمة المضافة والتشغيل. وهكذا تحوّلت السياسة المالية إلى إدارة أزمات قصيرة المدى بدل أن تكون رافعة لتحوّل اقتصادي حقيقي.

ثالثًا: منظومة جبائية مرهقة تفتقد العدالة

يواصل المشروع نفس النهج الضريبي الذي يثقل كاهل المواطنين والفاعلين الاقتصاديين دون أي إصلاح جذري للمنظومة. فبدل محاربة التهرّب الجبائي وتوسيع المساهمة العادلة بين الفئات والقطاعات، لجأت الحكومة إلى أسهل الحلول: توسيع قاعدة الأداء وفرض ضرائب ورسوم جديدة على الاستهلاك والخدمات.

هذه المقاربة، التي ترفع العبء الضريبي دون مقابل في النمو أو العدالة، تعمّق الركود الاقتصادي وتضعف القدرة الشرائية وتزيد من هشاشة النسيج الاجتماعي.

رابعًا: الوعود الاجتماعية بين الطموح والواقع

يرفع المشروع شعارات “الأمان الاجتماعي”، و“الإدماج الاقتصادي”، و“التمكين”، لكن السياسات المعلنة تبقى إجرائية أكثر منها إصلاحية. فالتركيز على الرقمنة والتنقيط الآلي في منظومات الدعم لا يعالج جوهر المشكلة: ضعف سياسات التشغيل ونقص التمويل الموجّه للبرامج الاجتماعية.

تتواصل أزمة الصناديق الاجتماعية وأنظمة التقاعد، وتتآكل القدرة الشرائية للطبقة الوسطى، فيما تتسع دائرة الفئات الهشة وتزداد تدهورًا. الدولة الاجتماعية تُستبدل تدريجيًا بدولة جابية… تجبي أكثر مما ترعى.

خامسًا: التناقض بين الخطاب والممارسة

بينما يتحدث مخطط التنمية 2026–2030 عن “تحوّل اقتصادي عادل وشامل”، يكرّس قانون المالية 2026 سياسة “إدارة الندرة” وتوزيع الأعباء دون إصلاحات بنيوية. لا إصلاح جبائي حقيقي، ولا إعادة هيكلة للمؤسسات العمومية، ولا خطة واضحة لإنعاش الاستثمار. وهكذا يظهر التناقض الصارخ بين الخطاب التنموي والخيارات المالية التي تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا.

الخلاصة

يعكس مشروع قانون المالية لسنة 2026 أزمة رؤية أكثر مما يعكس أزمة موارد. فهو يسعى إلى حفظ التوازنات الحسابية على حساب التنمية، ويؤجّل الإصلاحات الحقيقية، ويحوّل المواطن إلى المموّل الدائم لعجز الدولة.

باختصار، نحن أمام قانون مالية يفتقر للنفس الإصلاحي، ومخطط تنمية بلا أدوات تنفيذ، واقتصاد بلا روح. هو يكتفي بإرسال رسالة واحدة الى الشعب "نحن نعجز عن الإصلاح... فادفعوا أنتم الثمن.”

هادية العرفاوي