هاجر ريدان : إمضاءات التّأسيس اللّوحة إشعاع الفكرة

بقلم المنذر العيني - التّشكيل تعبير يسبقه التّعبير، ما من دافعيّة إلاّ ذلك الحرج الّذي يريد أن يخرجُ، يظلّ يحثّ ضرورتنا على القيام وعلى الانجاز.
ذلك الدّرس "الدولوزي" الّذي ما انفكّ يؤطّر الباحث مناسبة تلو أخرى في تسويغ الأفكار تُنبت أفكارا تتجّرأُ على قول أنّنا لم نصل راهنيّة تتوالد من إدارك مفهوم يلد مفهوما، والحركة نتاج تلك التّنظيرات تؤسّس له ترافقه وترفق.
وما من صيرورة إلاّ ما تخرجه من أعمال فنيّة على تنوّعها تتشاكل وتتداخل لتؤلّف ما نحاول تأويله. في محاولة مشاركة للقراءة، إنّها دائرة ولودة أو تداول يقرّب بين الأوجه من نظر ومن شَبه ومن إمكان احتظنتها تلك المجازات التّشكيليّة.

ما يمكن أن أفتتح به تجربة هاجر ريدان فنّانة تشكيليّة ذات هويّة وذات إمضاء، أنها مغامِرة حقيقيّةٌ من الوطن القبلي من منزل تميم، والمكان في ذكره شؤون تتعلّق بطرائق ونواحي من الشّخصيّة التّونسيّة بمميّزاتها في دأبها على الأداءات المعرفيّة والفنيّة والأمثلة كثيرة، مكان ملهمٌ منجبٌ كسائر القرى والمدائن والأرياف له ما به يخصّص لبِناتِه من البشريّات العبقريّة تحدث تجاوزها في حركتي الأدب والفنّ.
هي خرّيجة الٱداب لكنّ التّشكيل لغتها المدفونة قد أحيتها على غير نسق عاديّ جار عبر مسار معهود، بل واترت ذلك في مسارات جارفةٍ نحو عشقها في البحث عن تاريخيّته سبر أغوار الممارسات الفنيّة والجماليّات وما أتاحه القدر في أن تعاشر عائلتها الحرفيّة في صنائع النّجارة وتدقيقها ودقّها بالتّركيب والنّقش والخلق منتجاتٍ وعروضا، وما رأته في جوارها من مباعث الفنّ والتّزويق في سقائف المنازل من منزل تميم في تاريخيّات هي أشبه بالحلم زمنيّات الثّمانينات قد شغفها في داخليتها هذا التّعاضد بين اطّلاعاتها على كبرى قضايا اللّغة العربيّة وٱدابها وحضارتها وعلى ما تولاّه التّعويضُ بعدئذ من تأثّرها بكبراء الفنون التّشكيليّة يعبرون الأحلام نوازع وأمالا تجاربَ وراء أخرى يستثمرون في الأجساد والطّقوس والأجواء والأضواء والأطياف والخطوط والألوان والعجائن والأخلاط والمجسمّات والنّيران والمكوّرات والأحجام نتوءات وحفريّات، حتّى لوّحوا بأفكارهم خلقوا ألعابا وأتعابا جديدة تتطلّب وقفات قد تحتوي ما ثوى منذ المواشير الأولى إلى ماوراء التّكعيب أو في ظلال التّشطيب أو في وجوهها في ما يستر أو يفضح من فجأة تتخلّق معها النّواة من ٱداءات متنوّعة متغايرة طبقات تخلّق أختها.

هاجر اختبرت ذلك في ورشتها تكبر يوما بعد ٱخر تتصفّح ما به تؤسّس لوحتها المرجع حتّى تتعدّد أُخيّاتُها من التّشكيلات وفي خُلدها تلتفت إلى وجوهها من مدرسة تونس تنعطف على معارجها قد يمكّنها من خفقان أو من إيقاع قد يطالع لوحاتِها من جديد، غير أنّ ما يضيئ حقّا هو هذا التوصّل إلى تلك الضّرورة إلى تلك الحاجة إلى ذلك الاستعجال في الذّهاب إلى الميلاد إلى تشكيل هويّتها الفكريّة أثرا مرئيّا في رمزيّاته النّظرية وفي عطائه التّقني.
ما الّذي ترويه الفنّانه من حوادث ومن سرديّات عبر علقاتها المنويّة البشريّة وهي تتطاير شظايا من تلك الدّوائر والمنحنياات بأنوفها وأعينها وٱذانها من منزلقاتٍ ومن تجارب وإخفاقات؟ ما مأموريّة الكائنات تولد لتسقط من دائرة الحياة!؟ هل مازال من تَنامٍ تأويلي يمكنه أن تجوزّه حراراتها التّلوينيّة مع ما يعتمل داخلها من أسئلة وجوديّة خارقة تُطرِف عبر ركحياتها على القماشات.
هي لوحاتٌ تترصّد التّأويل تباشر انتمائها الإحترافي أو ليس اللّوحة شأنها شأن الشّعر، يفتح على لعبته الدّاخليّة من ناحيةٍ ومن أخرى يعاضد قارئه على التّجاوز؟!.

هكذا كان الٱداء الفكري عند ريدان في رصد تصوّراتها التّساؤليّة الوجوديّة الالتزاميّة التّحرّرية وهي تؤدّي تحيّتها على القماشة لتعمّر بالمزاوجة الطّريفة هذه عالمها التّشكيلي المميّز. إجازتها الحقيقيّة على الحيطان، كلّما همّ بها ناظر إلاّ وألفى إمضاءها ناظرا عبر راياتها فكرا وحادثة.
* هاجر ريدان: إمضاءات التأسيس، اللّوحة إشعاع الفكرة
الإصرار على الأداء كان فكرة، هاجسا تحمله أو تشحنه بين طيّات القراءة، قراءة الكتب والأعمال من شتّى مدارات الابداع، فالتّسعينات التّونسيّة كانت كفيلة أيضا أن تصوغ نبضها التّشكيلي من معارض تتصفّحها ومسارح ترتادها ودور سينما تحتفي ببثّها من عيون منزل تميم والحمامات ونابل والعاصمة وما ادّخرته المُقلة من تأثيثات جماعة تونس بزخارفها من الأقواس والمنعرجات والدّروب والسّقائف والوجوه واللّطائف من مَيلان أو سَيلان للألوان والصّنائع عند الذكور أو عند الإناث ومن أفراح وأتراح وعدولات وانزياحات مع ما أرّخته مصافحاتها في تاريخيّات الفنون وهي تتعالق عبر الاحداثات الأولى على الصّخور ورقة وحائطا في نفس الوقت، عبورا بفنون المعابد والحضارات مرورا بالنّهضات من تيّار إلى آخر تتجدّد فيها الانطباعيّة وتتجاوز مع مونيه ورينوار وسيزان وفان غوغ وغيرهم من شحّاذي المناظر والسّحنات والمدارت والطّرقات وما نابها من ولادات حديثة مع التّكعيب أو مع ما يفوق الواقع أويولّده حتّى إلى ما وصلناه إليه من تيّارات المعاصرة يهَبون ألوانهم تصيد بالمفاجأة أو بالرّمي أو بالمباغتة جروحا أو ندوبا أو علقات...
لا ينتهي الشّغف إلاّ ليبدأ مع تسويغات معاصرة دفعتها بالمغامرة بوجهها الخاص على الاكواريل وسيطا أقلّ سماكة وأقلّ تثبيتا مساحة للطخات لا تعوّض ولا تمّحي، تتنبه لمنزلقات الرّيشة ولغدر الألوان قبل أن تستأنس بذلك الصّمت المولّد على الزّيتيّات، وبتلك المحاجر من عيون على كلّ ألولنها وأشكالها تتداور في مخيلتها وهي مرتابة من أن تكرّر أو ترسب في تلك الأنماط.
تتساءل كيف تدقّ معاصرتها؟! لمن سترسم!؟ ماذا سترسم!؟ أسئلة تلوى أخرى وقد نابها من الرّدود انفتاحها على الفلسفات توقّع مفاهيم وأقواسا عبر ما شكّكته من حيازات أدبيّة لأعلامنا منذ قِفا...
مرورا بالمنعرجات إلى نثريّات الولادات الحديثة من أشعار وتيّارات تغمض تفتح تدفع بالّتي هي أحسن إلى صياغات كينونات صغيرة تطفو على السّطح يتكرّر معها حضور تلك الأجساد تحيلنا على المقاربة الفينومولوجيّة وقد اكّدها مورلوبنتي في تنظيراته، أنّ الجسد والنّفس شيء واحد، فالعلاقة بينهما متلاحمة شأنه في ذلك شأن الفيلسوف الألماني ماكس شيلر عكس ما نظّر له من قبل ديكارت "الجسد آلة عاطلة عن التّفكير" أو كلود برنار في أنّه "آلة للتّجارب".
مائيّاتٌ وزيتيّات تتناثر فيها الأجساد تنبئ بتمزّقات فكريّة عميقة تتداول فيها السّيميائيّات لغةً مرئيّة تختزل درجات من التّجارب حيث في وسط هذه الصّعوبات تكمن الفرصُ، فرص النّأي بالمظهر التّدقيقي الّذي لا يخدم ما انبنت عليه التّجربة من تنافذ أو تناسل الأفكار المؤسسّة إلى مظاهرة عامّة تكتنف معها الرّيشة من طبقة تحضيريّة أولى إلى طبقة ركحيّة عارضة تكوّر العلقات وتجعلها في حراك على سجّادةٍ تزخر بتنوّع ألوانها وخطوطها تنضح بأفكار تدور بين لغتين لغة الشّعر ولغة التّشكيل في تركيبات تنحو على التّقارب مع ما ترافد من لوحات ميديو موديلياني وحرارتها من ألوان هامشيّة صفراء حمراء حمراء قانية تغرق في الدّسامة أحيانا تؤدّي بها الفنّانّة حركتها أو علاقتها بالمدينة الأرض المزدحمة الضّاجة الصّاخبة الصّارخة. الإمكان واصل بين ما تنجزه الحركة التّشكيليّة من تقنيات وما تحتضنه القراءة الأدبيّة من وشائج قربى قد ترى ماتراه أفقا يتحقّق من خلال عدم الانتظام في كلّ مرّة يملأ الجسد في مجازه المرسل يتعدّد ليختزل كينونة حائرة تعتني بالأفول من خلال حقولها المزخرفة لوحاتها تتجاذب أصداءها عبر القراءات تتنفّس ذاكرتها من شجون الفنون في احتمالات لا تنتهي بيقينيّة الشكّ منتَجَعا منتَجا دائم الانفتاح.
كلّ تلك التّأثيرات لفرانسيس بيكونْ العابرة في مخيّلة الرّسّامة وهي تريد تلك التّشويهات البانية، تريد التّصريح أنّ مهمّتها لا تقف عند تلك الحدود الأولى هي تفتح أقواسا وأقواسا لمقولات فلسفيّة ترى أنّ وجودنا رغم ذلك السّلب والاندثار يبني بالفنّ وحدته، تقول هاجر في ما تقوله عديد الألسن التّشكيليّة " الرّسم عندي ليس قرارا بل قدرا.."
حوراتٌ تندرج على ركحيّة القماشة ومسرح مخصوص تبنيه الكويرات الرّأسيّة في إرسالها المجازي تنبئ عن تلقّفها الحيّ، لا معنى حينئذ في رصد الدّقائق بمعنى اقتضاءات الموشور يحدّد بالملّيمتر قياس الوجه، المعنى الّذي يعلق من لوحاتها في تحويل تلك الفوضى اللّعبيّة إلى خطاب أو مقامات تتسوّق منها الدّلالة أخذها في الردّ على محدوديّة التّأويل.
النّظرُ عليه أن يسع كلّ تلك المتلقّفات من ثنائيّات تتجادل من أحجامها الصّغيرة لا تظهر منها إلاّ تلك الرّؤوس والأجساد لطخات وهي تحبو على غرار كلمات منوّر صمادح. هاجر لها تصريفها في نشأة بيت الأفراح في لوحاتها تعمّرها بالماشي والجاي يتعالقون من مسامات ضيّقة إحداثيّات عن الحبّ عن المصادفات عن الغرائب والعجائب. الثّنائيّات لا تنتهي والقراءات مستفزّة للصّمت.
تثير دائما قضايا العصاميّة مدارج من حوادث صادمة تتعامل معها التشكيليّة هاجر ريدان بحذر، تفوقهم بوعي الأدبيّة ممّا خزّنه تفعيل التقّدم أو تمكين الحداثة لتنبئهم أنّ التبئير في تلك المعاني من فلسفات ونشوءات وارتقاءات لا تنفصل عن حدث اللّوحة عند بياضها الأوّل أو عند دهنها عند بكارتها، ينشأ كلّ شيء بالاحتمال، تبدأ العلقات والعلاقات في إحراج منشئها عن معاني الحياة الموت على حدّ السّواء، يبدأ الاستهزاء يناظره جَدّ التوّازي وقد وقف عند مِرانه ذاكرةً وعبورا.
هاهي تشحذ نفسها بنفس الطّريقة حيثُ تتحرّك البشريّات تارة في الخير وأخرى في الشرّ، وما بينهما الشّاعرة تترصّد النّائي والنّاتئ من معوقين ومن هامشيين ومن صُلاّحٍ وطُلاّح ومن عاريات سافرات هم شخصياتها يتهافتون يتهاتفون يوم القيامة أو لحظة التّدوين أو التّدوير الأوّل عند المستطيلة أو المربّعة على حصان السّبق أو الرّسم يتناوبون السّؤال مفتتحا للوجود، بدايةً ونهايةً، والمغرَمُ يجدّدُ.
إمضاءات قد تترافق مع ما ينشئه التّشكيل المعاصر التّونسي حين نلقف تلك الزّواجات تغرق في تأثّرها بالبصريات بإمضاءات عدول الاشهاد أعمالا تفتح على علاقاتها بالموروث الخطّي لها ما لها من ضرورات القراءة والتّأويل، لكنّ هاجر لها نبضها التّشخيصي تؤالف بين العناصر والقلوب في صياغاتها الجمعيّة ضمن حدس خارق يذهب مذهبه في التّصّوف وقد يكتمل ذلك عند إمكان الحلقة، لها ملمحها البصري الخاص تعلق بنموذجها الفريد في جعل اللّوحة أشبه بزخرفة حيّة تنشأ من صخب لا يهفت تبدؤه برسومات مجرّدة غرائبيّة أصوتا وسيقانا وأفواها وأسمالا، يحدثُ ذلك، تنحدر تلك المشاهد والفصول من بعث مؤجّل،ما ترميه اليد يفضحه حجر النّرد، هكذا السّرعة أو التّسارع في تزاوج على العرف يقنع بالنّجوى بين ما يمكن وما لا يمكن، كشأن رقصات القبائل تتسلّق صراخاتها عند الولادة أو عند المآتم بينما المدينة القرية تحضر بعراقاتها تغرق تعرق من شدّة هذا الانتفاض، لعلّه فرحنا في تلك الأيّام من ممفتح يناير عند ذلك الهبوب.
العنصر الأنثويّ يتجلّي في كاريكاتوريّة الأخذ أجسادا بمؤخّرات فائزة وبطون حاملة ينبني على إعلاء واضح لقضايا النّسويّة جرأةً وخفقانا تترافد من حين لآخر عبر المنحنيات وحدوث البلاغة مجازا وراء آخر تحدثة الوقفات إزاء ما يحدث من ترذيل لدور المرأة في دافعيّة الأحداث، اللّوحة التّي تعلكها هاجر حينئذٍ موقفُ حتميّة فرضه منسوب القيمة للقيم، تحتمي بها من شرور مجتمعات الذّكورة مجتمعات الحقارة.
أسّست هاجر ريدان مقولتها الاستعاريّة الكبرى من تساؤلات وجوديّة بحّاثة عن المعنى الّذي لا ينبني إلاّ بالتّساؤل عبر شخوص محتفية محتمية بعزلاتها الفرديّة الجماعيّة في آن، مشهديّات تواتر فيها ثنائيات تتزّلج في الأسواق بعثا تلو آخر تلبّي رغبتها في الوقوف على تلك الأسرار بعد أن خبرت إمضاءها من تلك الأوشام، تُعيّر صوتها من بين الأصوات.
التّشكيل تفعيل لما علق بالقصيدة من استعارات، الوصف حينئذ منحنى خائب المسعى، وحدها الرّيشة قادرة على الرّكح. ما جعل هاجر تديم الحرّ تديم الهيجان.



