كَيْ لا يُغتالَ حَشّادُ مَرَّتَيْن،

كَيْ لا يُغتالَ حَشّادُ مَرَّتَيْن،
بقلم فوزي الشيباني
في الخامسِ من ديسمبرَ لا نستحضرُ فقط ذكرى اغتيالِ الزعيمِ الوطنيّ والنقابيّ "فَرْحاتِ حَشّاد" ، بل نرفعُ الصوتَ مُجدَّدًا لِنُؤكِّدَ أنَّ الحقَّ لا يُغتال، وأنَّ العدالةَ التاريخيّةَ لن تكتملَ ما لم تتكشَّفِ الحقيقةُ كاملةً.
فهذه الذكرى ليست مُجرّدَ وقفةٍ رمزية، بل محطةً لإعادة طرحِ سؤالِ الحقيقةِ والعدالة، وفهمِ واحدةٍ من أهمّ الجرائمِ السياسية التي شكّلت تاريخَ تونسَ المُعاصر. إن ما توفّرهُ المعطياتُ التاريخيّة، وما تفرضه التشريعاتُ الفرنسيةُ والدوليةُ من واجبِ النفاذِ إلى الوثائقِ الرسمية، يصبحُ استرجاعُ الأرشيفِ المُتعلِّقِ باغتيال "حَشّادٍ" ضرورةً وطنيةً وقانونيةً قبل أن يكونَ مطلبًا سياسيًّا أو تاريخيًا.
أوّلًا: الوثائق… ذاكرةُ الحقيقة
إنّ الوثائقَ والأرشيفاتِ المُرتبطةَ باغتيالِ الشهيدِ "حَشّادٍ" ليست مجرد أوراقٍ أو تسجيلات، بل هي مرآةٌ تكشف نشاطه النقابيّ والسياسيّ، ومراحلَ الإعدادِ للجريمة وكيفية تنفيذها والملابساتِ التي رافقتها. كما تُوثِّقُ الظروفَ التي تُرِكَ فيها جريحًا دون إسعافٍ قبل الإجهازِ عليه، ونقله إلى المُستشفى العسكريّ الفرنسيّ بعد التأكُّدِ من اُستِشهادِهِ.
إنّ استرجاعَ هذه الوثائق واجبٌ وطنيٌّ وقانونيّ، لأنه السبيلُ لمعرفةِ مَن خطّط، ومَن نفَّذ، ومَن استفاد؛ ولتحديدِ المسؤولياتِ وتعزيزِ الملفِّ القضائيِّ وإنصافِ الذاكرةِ الوطنية.
ثانيًا: القانونُ الفرنسيُّ في خدمةِ الحقيقة
يُتيحُ القانونُ الفرنسيُّ عدد 2008-696 المؤرَّخ في 15 جويلية 2008 والمتعلّق بالأرشيف، حقَّ العموم في النفاذِ إلى الوثائق ذات القيمة التاريخية، وخاصةً تلك المُتصلة بالانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوق الإنسان.
وتنصّ الموادّ من L.213-1 إلى L.213-8 صراحةً على إمكانية تقديم طلبات فردية أو مؤسّساتية للحصول على هذه الوثائق، استنادًا إلى مبدأ المصلحةِ العامةِ في كشفِ الحقيقةِ وخدمةِ العدالة. وتكتسبُ هذه الأحكامُ أهميةً مُضاعفةً عند التعامل مع جرائمَ سياسيةٍ ذاتِ بُعدٍ استعماريّ، مثل جريمةِ اغتيالِ حَشّادٍ.
ثالثًا: البعدُ الدوليُّ وحقُّ الشعوبِ في معرفةِ الحقيقة
كرّسَ القانونُ الدوليُّ لحقوقِ الإنسان، إضافةً إلى قراراتِ مجلسِ حقوقِ الإنسان بالأمم المتحدة، ولا سيّما القرار عدد 9/11 لسنة 2008 المتعلّق بـ"الحقّ في معرفة الحقيقة"، حقَّ الشعوبِ في الاطلاعِ على المعلوماتِ المتعلقةِ بالانتهاكاتِ الجسيمةِ لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاغتيالاتُ السياسيةُ والجرائمُ المرتبطةُ بالسياقات الاستعمارية.
وبما أنّ اغتيالَ حَشّادٍ وقع في سياقِ الاستعمارِ المباشر، فإنّ هذا الإطارَ الدوليَّ يُعزّز شرعيةَ الطلبِ التونسيِّ باسترجاعِ الوثائق.
رابعًا: التعاونُ القضائيُّ بينَ تونسَ وفرنسا
تُوفّر اتفاقيةُ التعاونِ القضائيّ بين الجمهورية التونسية والجمهورية الفرنسية، الموقَّعة في 28 جويلية 1972، أساسًا إضافيًا لتبادل الوثائق والمعطيات ذات الطابع التاريخيّ أو الجنائيّ.
وتُتيح هذه الاتفاقيةُ للسلطاتِ التونسيةِ تقديمَ طلبٍ رسميّ للحصولِ على الوثائق المُتعلّقةِ بملفّ الاغتيال، في إطارِ التعاونِ القضائيِّ الدوليّ واحترامِ السيادةِ المتبادلة.
ويُعدّ هذا المسارُ أحدَ أهمّ السبلِ القانونيةِ المباشرة لتمكينِ تونسَ من الوصولِ إلى هذا الأرشيفِ الحساس.
خامسًا: آجالُ رفعِ السريّةِ عن الوثائق والنفاذُ إليها
ينصّ القانونُ الفرنسيُّ عدد 2008-696 على رفعِ السريّة عن الوثائقِ بعد آجال تتراوح بين 25 و50 سنة وفق طبيعتها الأمنية أو ارتباطها بالعلاقات الدولية. وبما أنّ اغتيالَ حَشّادٍ يعودُ إلى 5 ديسمبر 1952، فإن آجالَ السريّةِ القانونية قد انقضت منذ أكثر من نصف قرن، ما يجعل الوثائق قابلةً — من حيث المبدأ — للنفاذ إليها.
وقد سبق للرئيس الفرنسي الأسبق "فْرانسوا هولاند" ، خلال زيارته لتونس في جويلية 2013، أن أعلن رسميًا فتحَ جزءٍ من الأرشيفِ الفرنسيّ المُتعلّقِ بالحقبةِ الاستعماريةأمام العموم، وسلّم عائلةَ الشهيدِ وثائقَ سريةً تُظهر بوضوحٍ أن الجهة المنفّذة للعملية تلقّت الضوء الأخضر من المقيم العام الفرنسي آنذاك "جان دي هوتكلوك".
سادسًا: من أجل إنصافِ الذاكرةِ وترسيخِ العدالة
إنّ استرجاعَ الأرشيفِ المُتعلّقِ باغتيالِ "فَرْحاتِ حَشّادٍ" ليس ترفًا تاريخيًا، بل استحقاقًا وطنيًا تتظافرُ فيه مقتضياتُ التشريعِ الفرنسيّ والقانونِ الدوليّ لحقوقِ الإنسان والاتفاقياتُ الثنائية.
إنه خطوةٌ أساسيةٌ لاستعادةِ الاعتبارِ للزعيمِ الشهيدِ ولرموزِ الحركةِ الوطنيةِ والنقابيةِ الذين قدّموا أرواحهم فداءً لمعركةِ التحررِ الوطنيّ والانعتاقِ الاجتماعيّ.
فكشفُ الحقيقةِ ليس مجردَ إجراءٍ قانونيّ؛ بل هو فِعلُ وَفاءٍ للأوطانِ وشهدائها. فالشّهيدُ لا يموتُ حين يسقط، بل حين يُنسى. وإذا نُسيت تضحياتُ الشهداء، فقدتِ الأوطانُ بوصلتَها وذاكرتَها.
فلتكن هذه الذكرى دعوةً لكلِّ الأجيالِ لحفظِ إرثِ حَشّادٍ حيًّا في الوجدان…
وكي لا يُغتالَ الشهيدُ مرّتين، يجب أن تبقى الحقيقةُ حقًّا لا يسقطُ بالتقادم، وأن تظلَّ العدالةُ نافذةً مفتوحةً في وجدانِ كلِّ التونسيين.



