آراء حرة

أزمة السياسة بين الرداءة والخطاب الطفولي

في المشهد السياسي الراهن، يطفو على السطح خطاب يفتقر إلى العمق، ويعكس في جوهره طفولية فكرية لا تليق بمسؤولية إدارة الشأن العام. كثير من السياسيين يمارسون اليوم لغة أقرب إلى اللعب المدرسي منها إلى النقاش الجاد، وكأنهم لم يغادروا بعد مقاعد جامعات متواضعة لم تُخرّج قادة ولا مفكرين، بل أنتجت أفرادًا لا يرون في العالم سوى انعكاس لذواتهم.

هؤلاء السياسيين لم يعرفوا يومًا معنى المنافسة الفكرية أو العلمية، ولم يخوضوا امتحانًا حقيقيًا يثبت جدارتهم بقيادة الناس. لم يمروا بتجربة "الانتقاء" أو "التميّز" التي تصنع القادة، بل ظلوا أسرى بيئة متوسطة، حيث الرداءة معيار، وحيث التفوق يُنظر إليه كاستثناء لا كقاعدة. ومنذ سنوات الدراسة، كان يُنظر إليهم كأشخاص مشبوهين، يحيط بهم ظل الفساد، وكأن بذور الانحراف زُرعت فيهم منذ البداية.

إن ما يُسمّى "أيديولوجياهم" ليس سوى محاولة لتغطية فراغ داخلي، أو لتسكين عقدة وجودية لم تُحلّ. فهم لا يحملون مشروعًا فكريًا متماسكًا، ولا رؤية استراتيجية، بل يكتفون بتركيب شعارات سطحية، وترديد عبارات فضفاضة، وكأن السياسة مجرد مسرحية لتبرير وجودهم. الأيديولوجيا هنا ليست بناءً فكريًا، بل مجرد أداة لتبرير الذات أمام مجتمع يبحث عن معنى، فلا يجد سوى كلمات فارغة.

الخطورة تكمن في أن هذا الخطاب الطفولي يساهم في تدهور الوعي العام. حين يتحدث السياسي بلغة شعاراتية، دون عمق أو مسؤولية، فإنه يجرّ المجتمع إلى مستوى من الانفعال والسطحية، ويمنع أي إمكانية لتأسيس نقاش عقلاني حول القضايا المصيرية. وهكذا تتحول السياسة إلى لعبة، والسلطة إلى غنيمة، والناس إلى جمهور يتفرج على مسرحية هزلية.

إن الرداءة ليست مجرد وصف لحالتهم الفكرية، بل هي بنية كاملة تحكم سلوكهم وخياراتهم. الرداءة في التعليم، الرداءة في التكوين، الرداءة في الأخلاق، والرداءة في الخطاب. ومن رحم هذه الرداءة يولد فساد يلتهم المؤسسات، ويحوّل السياسة إلى وسيلة للثراء الشخصي أو لتصفية الحسابات، بدل أن تكون خدمة عامة.

المطلوب اليوم ليس فقط فضح هذه الرداءة، بل بناء بديل يقطع معها جذريًا. البديل هو خطاب سياسي مسؤول، ينهض على التفكير النقدي، على المنافسة الفكرية، وعلى مشروع جماعي يتجاوز الأنا الفردية. البديل هو إعادة الاعتبار للجامعة كمصنع للمعرفة لا كفضاء لتكريس الوساطة والزبونية. البديل هو إعادة تعريف السياسة باعتبارها فنًّا لإدارة الاختلاف، لا ساحة لتفريغ العقد النفسية.

في النهاية، يمكن القول إن أزمة السياسة ليست في الأشخاص فقط، بل في البنية التي أنتجتهم. لكن مواجهة هذه الأزمة تبدأ من تسمية الأشياء بأسمائها: هؤلاء ليسوا قادة، بل نتاج بيئة متواضعة، يختبئون خلف شعارات فارغة، ويستعملون الأيديولوجيا كعلاج مؤقت لعقدهم الوجودية. والوعي الحقيقي يبدأ حين ندرك أن السياسة لا يمكن أن تُدار بعقلية طفولية، وأن مستقبل الشعوب لا يُبنى على الرداءة.

المهندس الياس بلاغة