العالم تغيّر، وعلى تونس المتوثبة للتغيير حسن استثمار التحولات الجيو-سياسيّة
*خليفة شوشان
أوروبا العجوز الغارقة في تناقضاتها الداخلية وأزماتها المتعددة في أسوإ أحوالها، وأمريكا التي خرجت معفّرة بغبار الانسحاب المذلّ من أفغانستان ومخلفات حكم "ترامب" منهكة وغير مستعدّة للدخول في منازعة عسكريّة جديدة وسط "الجحيم الأوكراني" غير مأمولة العواقب نيابة عن أوروبا، بل إن وساطاتها التي اقترحتها بين أوروبا وروسيا رفضت بطريقة فجّة وواثقة من "بوتين" وألقيت على قفاها.
العالم يتغيّر، بل تغيّر فعليا ونبوءة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" التي بشّر بها "فرانسيس فوكوياما" في لحظة غرور امبريالي أمريكي حوّلتها الصين وروسيا إلى نكتة سمجة تستدعي الشفقة. اليوم كلّ الظروف الجيو-سياسيّة مناسبة لتونس وبقية الدول النامية المتحفزة للخروج من نير التبعيّة على حساب مصالحها الوطنيّة، لإعادة البناء على قاعدة وطنيّة سياديّة وحسن التّموقع بعيدا عن كلّ الاملاءات المذلّة التي تحولت لسنوات وعقود إلى ما يشبه القدر الذي لا فكاك منه. أمّا الذين وضعوا كامل بيضهم في سلّة الأوروبيين وارتهنوا إرادتهم وقرارهم السياسي لدى القوى الغربيّة، حتّى صاروا لا يخجلون من الحجّ إلى سفاراتها والطواف حول مراكز التأثير فيها والدفع بسخاء للوبياتها السياسية والاقتصادية بعد أن كانوا يقبضون منها والاستقواء بها لحسم معاركها الداخلية واستعادة السلطة التي خسروها، بنشر الغسيل الداخلي وتقديم فروض الطاعة والولاء.
فقد خسروا معركتهم وتحوّلوا إلى مجرّد طابور خامس وخردة وظيفية صدئة تجاوزتها اللحظة التاريخيّة واستحالت إعادة تأهيلها. على قيس سعيّد وحكومتها فهم اللحظة التّاريخية وإدراك طبيعة المتغيرات في العالم وحسن استثمارها في التفاوض مع المانحين من خلال حسن استغلال الأوراق التيس تمتلكها تونس موقعا ومكانة رمزية ورسم استراتيجيا أكثر نباهة ووعي بما يعتمل في العالم.. على القوى التقدميّة والديمقراطيّة الالتفاف حول المنظّمات الوطنيّة الوازنة وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل والخروج من حالة التردّد والمراهقة الإيديولوجية والطفولية السياسية والدكاكينية الحزبية وتشكيل كتلة تاريخية حقيقية تتميّز بالمرونة والبراغماتية وقوّة الاقتراح والضغط الايجابي قادرة على حسن استثمار اللحظتين الداخليّة والخارجيّة وصهرهما في برنامج وطني جامع والخروج من صغائر المناكفات والإغراق في التفاصيل والتفاهات.
على خلاف مواكب المظلوميات واللطم والتخويف من المستقبل التي تحقنها في شرايين الشعب التونسي مجاميع "أرامل منظومة تحالف الإخوان والريع والفساد" الفاقدة للسلطة والامتيازات، تبقى تونس أخرى ممكنة اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظلّ عالم متغيّر وموازين قوى متغيرة ومتنوعة تسمح بالكثير من هوامش المناورة للصغار للإفادة من حرب الكبار دون التورّط في أجنداتها أو الانسحاق والاكتواء بنيران معاركها كما هو الشأن مع أوكرانيا...