وطني

عبد الواحد المكني يكتب مودعا ليلى عدة ابنة الجيل الذهبي للجامعة التونسية والحركة التقدمية

للراحلة ليلى عدة الزغيدي علاقة وطيدة مع جبنيانة ومثقفيها وأغلب آهاليها. ارتبطت بالزواج مع أحد أبنائها المناضل السياسي والحقوقي والجمعياتي صالح الزغيدي الذي غادرنا الى عالم أرحب منذ سنوات قليلة ولكن لها مع العشرات قصص خاصة جعلتها تحبهم ويحبونها. وعند وفاتها، نعاها الجميع وأسفوا كثيرا لفراقها.

أحد هؤلاء، الاستاذ عبد الواحد المكني كتب بالمناسبة نصا رأينا من المفيد نشره (بموافقته) بالنظر الى ما احتواه من معلومات تاريخية ومن مشاعرانسانية راقية.


"وداعا ليلى عدّة"
 فارقتنا إلى الأبد  المناضلة والمؤرخة ليلى عدة وقد تم مواراة جثمانها الطاهر يوم الأحد 8 ماي 2022. و ليوم 8 ماي عدة مغازي ورموز لمن يعرف التاريخ القريب على الأقل فهو يحمل ذكرى  تضارب قوى الحرية مع معسكر القمع في ذاك اليوم سقط شهداء سطيف و قالمة و عنابة وسوق أهراس الذين طالبوا بالحرية و  نددوا بسجن زعماء الحركة الوطنية الجزائرية. في نفس هذا اليوم كان الاحتفال بانتصار الحلفاء على قوات المحور ...غير ان فرنسا "الحرة" في نفس اليوم وجهّت أسلحتهما نحو الجزائريين العزّل والأبرياء.
يجب أن يكون للمناضل الكثير من المرونة والصبر ليستطيع أن يشارك في احتفال الانسانية بهزيمة الفاشية والنازية ويندد في آن واحد بممارسات بلد الأنوار و الحرية الذي ارتكب الفظاعات في الجزائر يومها. هذه المرونة في تنسيب الرئيسي والثانوي هي أحيانا ملكة وفن وحس مرهف وأحيانا منشأ تمزق وغموض ولحظتنا التونسية  الراهنة خير شاهد.
من هؤلاء  المناضلين  الكبار والقادرين على التنسيب والفرز جورج وقلاديس عدّة اللذيْن وضعا بصماتهما في تاريخ الحركة الديمقراطية والتقدمية  التونسية والكفاح ضد الاستعمار والإمبريالية  وأنجبا  بعد أحداث 8 ماي 1945 ببضعة سنوات التوأم سارج وليلى عدّة .
ليلى عدّة زميلتي المؤرخة شخصية استثنائية. كانت من الجيل الذهبي للجامعة التونسية والحركة التقدمية. خلال أحداث فيفري 1972 كانت تكفّلت ب"اللوجستيك" والإسناد والإرفاد وايواء المناضلات والمناضلين الواقعين تحت طائلة التتبعات الأمنية وكذا في حركة أفريل 1973 وقبل ذلك كانت من المشاركات في الحركة المناصرة لضحايا محاكمات أمن الدولة 1968 التي شملت عناصر منظمة آفاق والبعثيين والحزب الشيوعي التونسي ومنهم ابن بلدتي المناضل صالح الزغيدي...
كانت ليلى دوما هادئة الطبع . عميقة التفكير لكنها لطيفة وكتومة كل من عرفها عن قرب أو حتى عن بعد لاحظ رقة شخصيتها وأحاسيسها الانسانية المرهفة كانت من المناضلات في كل جبهات التقدم والسلم والمساواة ومناصرة حرية المرأة وحرية التفكير وواجب العيش المشترك.
وكانت في مقدمة المتضامنين مع المساجين السياسيين. تعرفها قاعات الانتظار في أروقة المحاكم  وبهو السجن المركزي 9 أفريل وفي برج الرومي. كانت لا ترفد وتساند الأقارب فقط بل حتى الأباعد.
لمن لا يعرفها درست التاريخ و قامت بإنجاز شهادة كفاءة في البحث حول مناهج تدريس التاريخ بالمؤسسات التربوية التونسية تحت اشراف أستاذنا غلي المحجوبي . ثم أنجزت  الدكتوراه حول تاريخ الجالية الايطالية في تونس واهتمت بتاريخ الأقليات خاصة  من مرآة اشكالية التثاقف والعيش المشترك.
تم انتدابها بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر الذي كان يسمى معهد تاريخ الحركة الوطنية وهناك لم تترك إلا الأثر الطيب و حسن المعشر والعمل المكثّف بدون ضوضاء.
غادرتنا ليلى أيضا بدون ضوضاء في صمت عميق هي التي تعوّدت أن يكون كلامها قليل لكنه شديد التعبير:
"بعض السكوت أو قلة الكلام يفوق كل بلاغة وتبليغ"
كنت أعرف ليلى من عدة أبواب. باب الانتماء للبلدة جبنيانة وآل الزغيدي: صالح منصف ويوسف وحبيب وبوراوي ومازري ورؤوف وفارحة و مراد ومريم .
ومن باب الدراسة والاختصاص في العلوم التاريخية ثم الباب الثالث للحركة الديمقراطية واسعة النطاق.
ذات يوم  هاتفتها وقلت لها اني عثرت على وثائق هامة لجورج عدة وهو منفي في زغوان في مطلع الخمسينات وكانت الوثائق من نوعين . الأول بخط جورج عدة يحتج فيه عن سوء المعاملة والتضييقات ومنعه من حقوقه الأساسية في الدواء والصحف والتنقل وكان كتاباته باللغة الفرنسية جميلة ونافذة والنوع الثاني من الوثائق كنت تقارير "جوسسة" حوله.
طبعا فرحت كثيرا وتقابلنا في الأرشيف وسلمتها نسخة من الملف. كانت مبتسمة وودودة وشكرتني خصوصا انها كانت من الصنف الذي لا يعرفني الا باسم لطفي...وهو الإسم الذي تعرفني به كل بلدة جبنيانة.
وداعا ليلى....وداعا أيتها العظيمة الرؤوفة  ستظل ذكراك تدق ناقوس النسيان.

عبد  الواحد المكني

  

في الصورة الابوان قلاديس وجورج عدة وابنيهما سارج وليلى.