في ذكرى وفاته : أضواء على حياة القائد النقابي الكبير الحسين بن قدور
بقلم : محمد علي المؤدب
نحيي اليوم 12 ماي ذكرى وفاة القائد النقابي الكبيرمحمد صالح يدعى الحسين بن قدور وهو الذي ولد في 20 مارس 1930 من والده الطاهر بن عثمان بن قدور الزروقي في عائلة عريقة فجده الاعلي سيدي احمد زروق ولي صالح قدم من الجزائر في القرن العاشر هجري واستوطن الضاحية الغربية لمدينة قفصة.
ولذلك، تربى الحسين تربية دينية متينة فحفظ القرآن عن جده بخلوة الولي الصالح وحفظ الاناشيد الدينية والاذكار التي كانت تتلى كل ليلة جمعة وبالتوازي ادخله والده الى المدرسة القرآنية فحصل على الشهادة الابتدائية بملاحظة حسن سنة 1944 ثم اختار له اهله الانتماء الى الفرع الزيتوني فتحصل على شهادة الاهلية سنة 1948 ثم انتقل الى العاصمة وزاول دروسه بالجامع الاعظم ومدرسة الخلدونية الى ان تحصل على شهادة التحصيل في العلوم سنة 1952.
ثم شارك في مناظرة انتداب معلمين بالمدراس الابتدائية فكان من الناجحين الاوائل الذين اختارتهم ادارة المعارف لقضاء سنة خصوصية بمدرسة ترشيح المعلمين وفي هذه المراحل تتلمذ علي جهايدة المشائخ والمدرسين امثال الفاضل بن عاشور ومحمود المسعدي ومحجوب بن ميلاد واحمد صفر ومختار الوزير وغيرهم من الافاضل. وتمت تسميته معلما لأول مرة بجربة ثم بالقصر وتدرج فعمل مديرا بمدرسة لالة ثم الرديف فبنقردان فمنزل بورقيبة فنهج اراقو واخيرا بباب الجديد بالعاصمة.
اما مسيرة كفاحه الوطني والنقابي فقد بدأت منذ شبابه المبكر حيث كان من النسور الاوائل ضمن مجموعة الشباب القفصي الواعي والمتحفز لخدمة وطنه والانخراط في حركات الكشافة والثقافة والطلبة فكان عضوا بارزا في فريق الجوالة الكشافين، هذا الفريق الذي رفع شعار التحدي ضد السلط الاستعمارية باستعراضاته وحمله للعلم التونسي جهارا واحتفالاته بعيد العروبة في 22 مارس من كل سنة. ومن هذا الفريق انطلقت الكوكبة من المتطوعين لمعركة فلسطين ثم المعركة التحريرية المسلحة ببلادنا.
وكان الحسين عضوا بارزا ونشيطا في جمعية شباب ابن منظور القفصي التي اسسها الاديب ابو القاسم محمد كرو سنة 1945 وقامت بدور كبير في تثقيف الناشئة ونشر الحماس الوطني بفضل مكتبتها الادبية ومسرحها الطلائعي المتجول عبر المدن والقرى بمسرحيات وطنية وتاريخية مجيدة. وقام الفقيد بالتمثيل في رواية صلاح الدين الايوبي وعثمان التياس.
وتجلت فورة حماسه واندفاعه في جمعية (صوت الطالب الزيتوني) بالعاصمة خلال سنوات 1951 ـ 1952 ضمن مجموعة من القياديين امثال: عبد الرحمان الهيلة ومحمد البدوي وعبد العزيز العكرمي وغيرهم ولئن لم يدخل عضوا باللجنة الا انه كان ضمن ما يسمى بالبرلمان الزيتوني. وكان لهذه الجمعية نضال مرير لتحقيق مطالب اصلاح التعليم الزيتوني وكفاح مزدوج ضد الحكومة التونسية والحزب الحر الدستوري الذي يقاوم هذه الحركة بشتى الوسائل لأسباب يطول شرحها، وكانت لفقيدنا جولات ومواقف صلبة اثناء المحادثات التي كانت تجري مع الوزير الاكبر مصطفى الكعاك، ثم صلاح الدين البكوش فالحسين كما عرفتموه صعب المراس محجاجا ومشاكسا في غير تهور ومرنا في غير خضوع فكان الجماعة يحملونه معهم عندما تتأزم الاوضاع بينهم وبين الحكومة او الحزب، وله مشادات عنيفة مع صالح بن يوسف الذي حارب صوت الطالب بتكوين جمعية طلابية موازية سماها (كتلة الطلبة الزيتونيين) التي تأتمر بأوامر الحزب وله محاورات حادة مع زعيم الحزب (الحبيب بورقيبة حال رجوعه من جولته الاسيوية في 2/1/1952 والذي كان من المأمل ان يكون حكما بينهم وبين حزبه لانهاء المعاداة ووضع حد للصراع الذي وصل الى عدة احداث واعتداءات بالرصاص والحجارة على الطلبة الزيتونيين واشهرها حادثة 15/5/1951 امام قصر الباي بقرطاج والتي هاجم فيها انصار الحزب من الرعاع الطلبة القادمين للباي للتهنئة بعيد العرش وتقديم عريضة بمطالبهم.
ولكن الحبيب بورقيبة في اول اجتماع له بجامع صاحب الطابع مساء الجمعة 11/1/1952 هاجم الطلبة الزيتونيين ووصفهم بالمجرمين ونتيجة لهذا نشير الى موقف سياسي للفقيد مثبت بالوثائق يشير الى انه كان على خلاف عميق مع الحزب الحر الجديد وكان كغيره من القياديين على صلة باعضاء الحزب القديم امثال محي الدين القليبي والمنصف المستيري والدكتور احمد بن ميلاد ويحملون ميولات وتوجهات هذا الحزب نظرا للروح القومية والدعوة الى الوحدة العربية والاسلامية التي جهر بها قادة الحزب القديم منذ تأسيسه على يد الزعيم عبد العزيز الثعالبي. وهي اطروحات وتوجهات تجاوب معها معظم الزيتونيين بمن فيهم فقيدنا الحسين المتشبع فطريا بالروح العربية الاسلامية الاصيلة لذلك لا غرابة ان نراه ينزل الى قفصة وهو مازال طالبا ليدعو الشباب لدعم هذا الحزب والتنديد بصالح بن يوسف حسب ما جاء في الوثيقة التي عثرت عليها بالارشيف الوطني. ونراه في 6 ديسمبر 1952 يقود مظاهرة طلبة دار المعلمين احتجاجا على اغتيال فرحات حشاد ويقع اعتقاله من امام مقر الاقامة العامة ويحجز لمدة 21 يوما.
ولم ينخرط في الحزب الحر الجديد الا في سنة 1957 عندما كان صحبة مجموعة من شباب قفصة يدعون الى تطوير الحزب وتشبيبه بعناصر مثقفة وملتزمة وهكذا جمع حوله كوكبة من الشباب وسيطروا على شعبة المدينة وتحمل الحسين مسؤولية الكاتب العام وقام بنشاط حثيث في تلك الظروف لمقاومة اتجاه صالح بن يوسف او ما يسمى بالامانة العامة والدوافع واضحة ولا تحتاج الى تعليل.
كما ان له السبق في اعلام الجماهير بقرار المجلس التأسيسي باعلان النظام الجمهوري في اجتماع حاشد نظمته الشعبة مساء 25 جويلية 1957 بقلب مدينة قفصة ونظرا للعلاقة الوثيقة التي تربطه بالزعيم النقابي احمد التليلي في فترة الكفاح التحريري، تم اختياره في قائمة اول مجلس بلدي بقفصة بعد الاستقلال وشغل مستشارا رئيسا للجنة الاجتماعية والثقافية وعمل في هذه الفترة على دعم الثورة الجزائرية التي كانت لها قيادة فرعية بمدينة قفصة لجمع الاموال وتمرير الاسلحة والمؤونة والادوية الى الثوار المرابطين على الحدود التونسية الجزائرية.
وخاض الفقيد عدة معارك سياسية ضد من اتهموه بالناصرية والدعوة الى القومية العربية فاضطر الى الاستقالة من الشعبة صحبة عزالدين الشريف والبشير الشاوش ومنجي الاجري واصبحوا في حكم المنتسبين الى حزب معارض ضد بورقيبة وهكذا اعتزل الحسين العمل السياسي نهائيا وفي هذه الفترة حيكت ضده تهمة شهادات مزورة تم بموجبها الغاء تسميته مديرا بالمدرسة الكبرى بمدينة قفصة ونقل الى بنقردان مديرا ومن هنا طلب مدرسة منزل بورقيبة التي شهدت بداية عمله النقابي ضمن النقابة الاساسية للتعليم الابتدائي.
اما دخوله الى المركزية النقابية فقد حدث صدفة وبدون مقدمات ولا سعي منه للوصول الى ما وصل اليه. ففي اجتماع للمجلس القومي للاتحاد العام في 11 و 12 1972 اتفقنا نحن الكتاب العامون للنقابات الجهوية مع الاخ الحبيب عاشور على حل هيئة النقابة الوطنية ( الطاهر الباجي) بسبب خلافات دبت في صفوفهم ونتيجة ما اكتشفناه من تجاوزات منهم عطلت مصالح المعلمين وطالبنا بتكوين هيئة وقتية للاعداد للمؤتمر الاستثنائي.
وهنا تم اقتراح اسم الحسين بن قدور والحقيقة انه لم يكن معروفا آنذاك من طرف القيادة النقابية العليا ولكن وللتاريخ كانت شهادة الاخ خليفة عبيد المسؤول عن منطقة بنزرت كافية لادراج اسمه ضمن القائمة التي وقع اختيارها بعد فحصها وتمحيصها ثم كان الاتفاق عليه ليكون الكاتب العام للهيئة الوقتية التي عكفت على تصحيح المسار النقابي برؤية جديدة وحماس شديد ساعداها على تقدم المفاوضات مع وزارة التربية وايجاد الحلول للقضايا النقابية المعلقة وبالتوازي قام الحسين بن قدور ورفاقه بجولة في جميع انحاء البلاد فأعاد بأسلوبه الفذ وفصاحته المعهودة حركية العمل النقابي التعليمي واحيا روح الامل في نفوس المعلمين فأقبلوا افواجا على الانخراط بمنظمتهم وحضور الاجتماعات النقابية بكثافة لم تكن معهودة من قبل.
كما صحح مفهوم العمل النقابي بالدعوة الى التزام الضمير المهني نحو فلذات اكبادنا مهما كانت الظروف المادية التي يعيشها المربي. كما دعا الى نبذ التطاحن مع الادارة على اساس اننا كلنا اسرة تعليمية واحدة واللجوء الى التفاهم والتراضي بدل الاضراب والتصعيد ولا غرابة في ذلك فهو معلم ألمعي ومربي مثالي ومدير ماهر وواضع برامج وبحوث تربوية محتذاة ومكون للمكونين وآخذ بيد المبتدئين والمتربصين.
وانعقد المؤتمر القانوني للنقابة الوطنية سنة 1973 وانتخب بالاجماع صحبة كوكبة من خيرة رجال التعليم وانطلق كالبراق يطوي المكاسب طيا ويحقق مكاسب على غاية الاهمية نخص بالذكر منها:
ـ توسيع قاعدة معلمي التطبيق الذين لم يتجاوزوا عدد الاصابع سنة 1974 ليصبحوا في 1/1/1975: 3500 معلم تطبيق مع نسب التزايد سنويا حسب شروط مهنية.
ـ ادماج المدربين من الصنفين في خطة معلم وهو امر عظيم حقق وحدة رجال التعليم وامحى الفروقات المادية والمهنية المجحفة.
ـ احداث المنحة البيداغوجية ومنحة السكن ومنحة التنقل لأول مرة زيادة عن منحة الانتاج وغير ذلك من المكاسب التي فتحت الباب لأصناف اخرى من رجال التعليم الثانوي والعالي.
وبرز الحسين كالنجم الساطع في سماء الاتحاد العام وهيئاته التنفيذية واذكر ان الحبيب عاشور خاطبنا يوما قائلا: «من اين اتيتم بهذا الغول». وحينما تقرر ان يخير اعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام بين التفرغ للعمل النقابي او الاستقالة تم تعويض من استقال وهو المرحوم عامر بن عائشة بالفقيد الحسين بن قدور واصبح لاول مرة عضوا للمكتب التنفيذي وجدد انتخابه بأغلبية ساحقة في المؤتمر الثالث عشر للاتحاد العام 28 مارس 1973 وكلف بأمانة المال والشؤون والادارية وسلم مشعل النقابة الوطنية الى احد زملائه وهو الهادي عبيد.
وصادف وجوده بالمكتب التنفيدي بداية الصراع وشد الحبل بين حكومة الهادي نويرة والديوان السياسي من جهة والاتحاد العام من جهة اخرى فكان الحسين الداعية الى الوفاق الوطني ونبذ التطاحن وكان شعاره «البلاد بلادنا ومصلحة الوطن في اتحاد قوي ومستقل ولن نتراجع قيد أنملة عن حقوق الطبقة الشغيلة مهما كانت الظروف».
وانكشفت النوايا وتم التصعيد الى ان بلغ منتهاه لاسباب يطول شرحها ولن يعسر كشفها امام الباحثين والمؤرخين اذا ما عقدوا العزم على اجلاء الحقيقة.
وكان ما كان بعد اضراب 26 جانفي 1978 وزج بالمئات من النقابيين في السجون وتعرض الاتحاد وهياكله النقابية الي هجمة شرسة وحوكم قادته بمن فيهم فقيدنا الحسين محاكمة غرضية وقضوا سنوات بالسجن لم تزدهم الا اصرارا على الحق وتشبثا بالمبادىء النقابية السامية. [ انظراستنطاقه من طرف محكمة أمن الدولة في اكتوبر 1978: لا نحتاج لمن يلقننا كيفية الدفاع عن منظمتنا وعن انفسنا (echaabnews.tn) ]
ويشدنا الحديث في الاخير الى جوانب ذاتية وصفات متميزة في شخصية فقيدنا لقد كان ممتازا في حسن علاقاته مع اخوانه النقابيين رحب الصدر طلق المحيا واليد كريم النفس شهما شديد المراس عنيفا عندما يكتشف الخدع والمخاتلة وخبث الطوية لدى البعض ممن حوله. حريصا اشد الحرص على سلامة اموال الاتحاد وممتلكاته خدوما للنقابيين وغير النقابيين في شتى قضاياهم ومستحقاتهم ومشاكلهم لا يفرق بين اهل شمال او اهل جنوب ولا بين ثري ولا فقير يقضي الساعات والايام في المتابعة والاتصالات المكثفة لرفع مظلمة سلطت على احد او مساعدة طالب لاتمام دراسة تشغيل هذا ونقل ذاك. كان مكتبه مفتوحا للجميع يعج بالمتظلمين وفاقدي السند.
وفي مسقط رأسه واثناء زياراته الخاطفة تمتلىء مذكرته ويجف قلمه من شدة ما يسجل من مظالم وقضايا وما اكثرها ويعكف على حلها عند رجوعه بأناة وصبر بفضل علاقاته الشخصية بالمتنفذين في مختلف الوزارات.
رحمه الله رحمة واسعة على قدر عطائه وتضحياته وبارك له في ذريته الابرار وزملائه النقابيين الاحرار.
---------
مقتطف من مقال نشربجريدة "الشعب" الورقية الصادرة يوم 12 ماي 2007
---------
في الصورة الاولى (يسار الشاشة) يظهر الاخ الحسين بن قدور على يسار الاخوين الطيب البكوش والحبيب عاشور فيما يظهر الاخ الهادي عبيد على أقصى يمين الصورة متحدثا في اجتماع للهيئة الادارية الوطنية وفي الصورة الثانية (يمين الشاشة) يظهر الاخوان الحسين بن قدور والحبيب عاشور وبينهما القائد الفلسطيني أبو إياد (صلاح خلف) بعد جلسة وساطة منه بين الاتحاد وحكومة الهادي نويرة. رحم الله المتوفين وخلد ذكراهم.