النص الكامل لمرافعة ممثل النيابة العمومية في اتهام النقابيين ضمن محاكمة قيادة الاتحاد في 1978 (24)
أوجزنا مرافعة القاضي عبد العزيز الحمزاوي ممثل النيابة العمومية ضمن هيئة محكمة أمن الدولة التي انتصبت في خريف 1978 للبت في قضية النقابيين المتهمين بالمسؤولية عن أحداث 26 جانفي فاكتفينا بمطلبه الملخص بالحكم بالإعدام. لكن حجم القضية في حد ذاتها وحجم التهم الموجهة للنقابيين وخاصة ما احتوته مرافعة ممثل النيابة من اتهامات وتفصيل لها جعلنا نخير نشرها كاملة على حلقات متتالية.
قال القاضي عبدالعزيز الحمزاوي - الذي كان في وقت ما رئيسا للجامعة التونسية للملاكمة - في مرافعته :
ان القضية المطروحة بين ايديكم على غاية من الخطورة بل اقول انها من اخطر ما تعرضت له هذه الدولة منذ نشأتها وذلك لا بالنظر الى وقائعها فقط وهي وقائع في حد ذاتها تبعث على الاندهاش وانما ايضا على وزن الدولة عند اناس وعلى مفهومهم في تسيير الشؤون وبناء المجتمعات والنهوض بها والى نوعية السلم الاجتماعية وازدهار البلاد بجميع طبقاتها في كنف الوئام والعدالة والى استصاغة الاراجيف والادعادات والتطاحن ومجابهة النظام والنيل من سلامة الافراد والممتلكات وبصفة اعم من امن الدولة سياسيا واقتصاديا.
القضية اخطر ما تعرضت له هذه الدولة منذ نشأتها
انها لعمري اجوبة اتتنا عن طريق تصرفات المتهمين رأيا وعملا ومنهاجًا كادوا ان يوقعونا في اعظم كارثة يصاب بها بلدنا، وعجبا ان يحدث فيه وهو البلد الامين المعروف باستقراره، ما حدث وعشناه في ذلك اليوم المشؤوم الذي سجله التاريخ بكل اسف في حياتها فكل ذي عقل يستغرب لهذا الحدث الاليم ومحل الاستغراب يتأتى من عدة عوامل ابرزها:
أولا: ان التونسي بفضل ما بلغه من تنمية اقتصادية شاملة وثورة تعليمية جارفة وتفتح فكري جريء على الامم المتقدمة كان في مأمن من ردود الفعل العاطفية المتطرفة وانه لم يتغير رغم الاحداث اذ انه يأبى المغامرة و يبغض الفوضى ويركن الى السلم ويميل الى الوئام ويحب العمل،
وثانيا: ما عرفت به الدولة من عمل دائب ومستمر لغاية اسعاد البشر ضرورة ان الانسان غاية سياستها فهي ما انفكت تعمل على ضمان حرية المواطنين الحقيقية في جميع الميادين ورفع مستوى عيشهم مع توعيتهم وتشريك كل القوى الحية المدركة في المسؤولية، ومن الشواهد على ذلك نستطيع تفسير التراجع في سياسة الستينات عندما اتضح انها غير ملائمة وسهرها الدائب على ان تكون اعمالنا شورى بيننا وافعالنا قوامها الوفاء بتعهداتنا الواعية مستجيبة لما تفرضه الاخلاق رامية الى بناء مجتمع معتدل بفضل مجهودات مشتركة وحقوق وواجبات متساوية قصد تحقيق مصلحة الجميع.
اننا كلنا على بيّنة مما وصلت اليه حالة البلاد في الفترة العصيبة من حياتها التي المعت اليها والتي اتسمت بالخديعة لفرض سياسة مقنعة هادفة في الحقيقة الى اقرار نظم نحن بعيدون عنها واقعا واخلاقا ومناخا.
جمع كل القوى لاختيار منهاج تنمية سليم
وما ان تولت الحكومة الحالية مقاليد الامور عملت الى جانب ارجاع الطمأنينة في النفوس ـ على جمع كل القوى لاختيار منهاج تنمية سليم يتلاءم مع معركة الحياة التي نجتازها ومضت شوطا كبيرا في هذا المجال فكللت جهودها وجهود جميع اصحاب النوايا الحسنة بالنجاح وبالفعل فانه منذ اضطلاعها بالمسؤوليات التي ابت الا ان تكون مفتوحة لكل اصناف المجتمع ومنظماته حققت التقدم واطيب النتائج في جميع ميادين اختصاصها اقتصادية كانت او اجتماعية بفضل عمل مشترك واطلاع كامل على امكانياتنا حتى اصبحنا في هذا العالم الثالث وبهذه المنطقة الحساسة منه دولة مسموعة الكلمة لها اشعاعها بفضل تبصر قادتها ورجالها موفقين في خلق حضارة وطنية ومساهمين في نهضة الحضارة العالمية وارسينا دولة عصرية مكتملة الاجهزة الدستورية واهتدينا حتى الى سن نظم كنا اليها من المبتكرين واصبحت بعض الدول المتقدمة تنسج على منوالها.
وهنا اتساءل عن سبب الكارثة التي حلت وهي كارثة كادت ان ترمي بنا في دوامة الانتفاضات والتطاحن الطبقي الذي لمسنا بالامس ويلاته واعتقدنا انه ولى وادبر وان تضرب اقتصاد البلاد لما تأهب للانطلاق واشاعة البغضاء بين المواطنين وحملهم على مهاجمة بعضهم بعضا بتعلات واهية وقع التستر بها في الواقع بغية تقويض اركان الدولة بالعنف والتقتيل والاعتداء على الاملاك العامة والخاصة والنيل من امنها الاقتصادي وبالتالي الاجتماعي والسياسي.
خطة علمية في اثارة الشغب السياسي
يجب ان نتذكر ما حدث وان لا ننساه على مر الايام ولو اننا نعلم ان مر الايام يخفف على البعض من هول الحوادث ذلك ان الامر يهم كيان البلاد ومستقبلها، فلا يلزم حينئذ تناسيها بل ينبغي ان تكون لنا عبرة لضمان امننا ولو كانت لي الان وبهذه القاعة امكانية عرض اشرطة فيما جد من حوادث لتشاهدوا مدى خطورتها والاضرار التي لحقت بالارواح والمكاسب نتيجة تنفيذ خطة علمية في اثارة الشغب السياسي لادركتم بصفة حية وملموسة ولتجددت امام اعينكم وقائع الماساة التي حلت بهذا الوطن بفعل فئة تنكرت للعهود وللمواثيق واعرضت عمدا عن ميزات الوعي والتبصر والاسهام في بناء صرح مجتمع معتدل ومتضامن عن طريق الحوار بين كل الاطراف الاجتماعيين متفقين على برنامج تنمية يراعي كافة المصالح ويمكن البلاد من التقدم في كنف التوازن والاستقرار.
ولتذكرتم ما اصبح فيه كل فرد منا في ذلك اليوم وكله حسرة من جراء الدوامة التي اريد القاءه بها مهددا في حياته ومكاسبه متخوفا عن مصير بلده وكل متبصر متخوف من مغامرة هدامة للحرية والشرعية.
لكن الله اراد بهذا البلد خيرا فامكن بفضل سياسة حكيمة التغلب على الاوضاع وخف الساهرون على أمن البلاد ودون هوادة ولا مساومة وامام الاعتداءات على هيبتها وسلطانها والنيل من امنها الى الحفاظ على النظام وسلامته وممارسة كل سلطاتها الشرعية حتى تكون الكلمة الاخيرة الى انتصار الحق والقانون على الفوضى والمخربين وتظافرت جهود الواعين بمصلحة البلاد المحترمين لهياكلنا الدستورية الى ارجاع الامور الى مجراها الطبيعي واستتب الامن وخرجنا من هذه المحنة بالرغم مما في النفس من أسى وحسرة على الثمن الذي دفع ماديا وخاصة بشريا بفعل تنطعات مغامرين ارادوا عرقلة العمل الانمائي وطعن اللحمة القومية، وتقشع الحلم المزعج الذي عشناه وعلينا ان نقف على حقيقة الاسباب.
لقد اطلعتم على اجوبة المتهمين فاذا هي نسيج من التناقضات وقلب للحقائق.
هل الدولة اعتدت على الحرية؟ وهل انها اوقفت سياسة الحوار والتشاور التي اتسم بها تدبير شؤوننا العامة وامكن لبلادنا بفضلها ان تسعى للرقي في كنف السلام في توازن لمصالح الجميع وان تتبوأ مكانة جد مشرفة بين البلدان النامية؟
هل انها خرقت القوانين او تنكرت لتعهداتها؟
هل انها داست مواثيق امضاها معها عن طواعية من اعتبرتهم اطرافا مسؤولين يقولون كلمتهم في مختلف اوجه السياسة الاقتصادية والاجتماعية ونظرت اليهم نظرة الرشيد لا المولى عليه؟
هل ان مرءاة الميزانيات التي تعدها وصادق عليها نواب الامة يلوح منها انها لا تهدف لتحقيق المصير الافضل لابناء الشعب وانها تفضل فئة على اخرى، صنف له الحق في كل شيء وصنف يرهق؟
وهل انها غير سائرة في سبيل تحقيق الخيرات للطبقة الشغيلة وان ما انجزته لم يكن فوق كل الامكانيات؟
وهل ان المطالب الاجتماعية على فرض شرعيتها ووجاهتها مبررة للاعتداء على امن الدولة ولادخال الفوضى بالبلاد ولسلوك سياسة التهرية والتقتيل وجعل ذلك طريقة لفرض المساواة؟
وهل قامت الدولة بحل الاضراب بالقوة في ذلك اليوم الاسود ام ان قيادة الاتحاد هي التي استعملت وسائل القهر والترهيب والشغب بشتى انواعه سلاحا لانجاح ما اقدمت عليه وما خطت لبلوغه عنه ارضاء للمطامع على حساب الشعب وازدهاره ولتقويض هيئة الحكومة.
ان كل هذه التساؤلات تتطلب منا التذكير بما كانت عليه البلاد وباحداث جدت قبل اندلاع الاعتداء المفضوح.
هكذا تولّد الغرور وكيف حيكت المكائد وكيف تم تنفيذه
ليفهم الجميع كيف تولّد الغرور وكيف حيكت المكائد وكيف تم تنفيذها في حين ان الحكومة حذرت على لسان رئيسها من المنعطف الذي سلكه الجماعة متخذين منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل مطية لنيل مراميهم بفضل ما تميز به من قوة واستقلال، متوهمين انهم يستطيعون المغالطة حتى اذا ما ضرب على ايديهم. قالوا انه وقع النيل من المنظمة النقابية واعتلت اصواتهم متحالفين مع جميع النزعات الهدامة التي خفت اليهم من كل حدب وصوب داخلا وخارجا حتى ويا للغرابة وجدت لهم مناصرا من كانوا للاتحاد في الماضي عدوا ولفرحات حشاد الذين يزعمون الانتساب اليه مقاوما عنيدا.
وهل ان الدفاع عن الشرعية وعن كيان الدولة وعن حماية المتساكنين والنظام العام وتتبع الجناة ومحاكمتهم يعتبر عملا غير شرعي وهتكا للدستور واعتداء على المنظمة النقابية.