وثائقي

أول أكتوبر 1985 يوم قالت الاذاعة ان طائرات مجهولة الهوية آتية من الجنوب هاجمت العاصمة

الشعب نيوز - محمد العروسي بن صالح - يوم 1 اكتوبر 1985، كنت والزميل فوزي العذاري الصحفي بوكالة تونس افريقيا للانباء والكاتب العام للنقابة الاساسية لاعوانها في مكتبي بجريدة الشعب الكائن 16 شارع قرطاج نستعرض آخر تطورات المناخ المتوتر بين الاتحاد والحكومة لما سمعنا دويا مهولا اهتزت له العمارة كاملة وارتعشت الابواب والنوافذ وتدحرجت بعض التجهيزات من امكنتها.

ارتعدت  فرائصنا وذهب بنا الظن الى ان زلزالا قويا ضرب المدينة رغم معرفتنا بان تونس تقع خارج الدوائر الزلزالية الكبرى لكن من يدري ربما كانت تلك المعرفة المحدودة مغلوطة.

 دون اتفاق، قررنا مغادرة المكتب والنزول الى الشارع لعلمنا مرة أخرى ان رجة ارتدادية قد تحدث بين الفينة والاخرى اذا تعلق الامر فعلا بزلزال ضرب المدينة. نزلنا مدارج العمارة الكولونيالية الواسعة، المتباعدة والوفيرة العدد فيي لحظات لا تكاد تحسب من فرط السرعة التي ركضنا على وقعها وما هي الا ثوان حتى كنا في الشارع المزدحم حيث الناس يتسابقون في كل الاتجاهات، واجمين يسأل بعضهم البعض، ان كان زلزالا أو انفجارا ضخما والكل خائف من ان يتبع الزلزال او الانفجار ارتداد ما.

لم نظفر بأي اجابة. حتى الامني المكلف بمراقبة العمارة ومن فيها من النقابيين و الصحفيين بدا مشدوها ومندهشا مما حصل. ولما تقاطعت أعيننا سائلة عينيه،  اكتفى  بعلامة من يديه تعني انه لا يعرف.

من شارع قرطاج، انتقلنا الى نهج اليونان حيث مكتب الامين العام للاتحاد الزعيم الحبيب عاشور ومكاتب البعض من اعضاء المكتب التنفيذي. نفس الحيرة، نفس التساؤل. بادر الزميل فوزي العذاري بالاتصال بزملائه في الوكالة لسؤالهم، فأجابوا بعدم العلم.

فجأة، سرى الخبر من محطة قطارات الضاحية الجنوبية بان طائرات القت قنابل لكن دون تحديد المكان بالضبط. 

علم الزعيم الحبيب عاشور بوجودنا في مكتب مساعده الخاص الاخ عمار بن سلطان فدعانا للدخول الىى مكتبه والجلوس اليه ومشاركته البحث عن مصدر تلك الرجة القوية. هاتف المدير العام للامن الوطني آنذاك زين العابدين بن علي فقيل له انه ليس في المكتب. هاتف وزير الاعلام آنذاك عبدالرزاق الكافي فقيل له انه في اجتماع.

في نفس الوقت وبواسطة خط هاتفي آخر، خاطب الزميل فوزي العذاري زميلنا جميعا مصطفى بن باشي الملحق الصحفي لدى وزير الدفاع ليسأله عن الموضوع. كان فوزي طوال المكالمة، رغم قصرها، واجما لا ينبس بحرف، وكان كلما تقدمت المكالمة، يرخي جسمه القوي كمن كان يتلقى لكمات سريعة.

وضع السماعة واقترب من سي الحبيب لينقل له انها طائرات قادمة من البحر ألقت قنابل على بعض المواقع في العاصمة. بعد ذلك بقليل وصلنا خبر- تبين انه شائعة - قال ان الطائرات قادمة من جهة الجنوب وذلك في ايحاء غير بريء مفاده انها ليبية أرسلها العقيد معمر القذافي في اطار الخلاف الحاصل آنذاك بين البلدين بسبب عملية قفصة وطرد العمال التونسيين من ليبيا.

هنا خاطب سي الحبيب وزير الدفاع آنذاك صلاح الدين بالي ليستفسره حول الموضوع فرد الوزير بان الامر يتعلق "بطائرات مجهولة الهوية الى حد الان" ، يبدو انها قادمة من جهة الجنوب وانها القت قنابلها في عدة أماكن من العاصمة.

فجأة، دخل الاخ عمار بن سلطان الى مكتب الامين العام ورجاه ان يقطع المكالمة لان شخصا مهما يلح على مكالمته مباشرة. انه انزو فريزو الامين العام المساعد للكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة المعروفة لدى التونسيين اختصارا باسم " السيزل ". فريزو نقابي ايطالي، متحمس للقضية الفلسطينية، مدافع عنها وعن القضايا العربية. متزوج من امرأة لبنانية. بادر سي الحبيب بالسؤال : "طمئني هل انتم لا باس، هل ثمة خسائركبيرة في الارواح، ماهي الخسائر الى حد الان، طمئني يا حبيب."

لم يتمكن سي الحبيب من الرد حتى أردف فريزو يقول " فعلها الاوغاد، آتون اليكم من على بعد 2500 كلم، وأولئك الامريكيون؟ قاطعه سي الحبيب : من هم؟ رد فريزو بنرفزة بادية في صوته " الاسرائليون، الاسرائيليون، هاهم يعلنون بفرح ان طائراتهم نفذت عملية ناجحة في تونس استهدفت مقرات منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط."

سكت سي الحبيب طويلا، وبحركة متثاقلة، أعاد السماعة الى مكانها ووضع رأسه بين يديه، ولاحظنا بكل يسر انه كان يبكي. سألناه بكل جزع وخوف : " اش ثم سي الحبيب ؟". سحب منديله من جيبه ومسح عينيه مما فيها من دموع وقال متنهدا " اسرائيل هي من ضربت مقرات القيادة الفلسطينية في حمام الشط، والاسرائيليين عاملين حفلة بنجاح العملية."

خيم الصمت في المكتب خاصة وان عددا هاما من النقابيين التحقوا به. ومرت دقائق طويلة كأنها الدهر والجميع واجم لا يتكلم من فرط الصدفة وهول التوقعات بان يكون ياسر عرفات قد قتل في الغارة. 

وزير الدفاع عاد الى نفس الرواية لما عاود سي الحبيب الاتصال به، فقطع عليه سرديته قائلا بالحرف " اخطاك من الحكاية هذي، اسرائيل هي الي ضربت وفي حسابها تحب تقتل عرفات، وآهم الاسرائيليين عاملين حفلة وانت تقل لي مجهولة. أيا في لامان."

جرى كل الذي وصفته في نحو نصف ساعة. قدمت الطائرات الاسرائيلية من قواعدها في الارض المحتلة، تزودت بالوقود الاضافي من القاعدة الامريكية في صقلية، وصلت فوق حمام الشط في تمام العاشرة صباحا لعلمها المسبق ان القيادة الفلسطينية وعلى رأسها أبو عمار ستعقد اجتماعا مهما في مقرها بحمام الشط. ومباشرة نفذت الغارة مدة 5 الى 7 دقائق ثم عادت من حيث جاءت. ومباشرة اثر ذلك، اعلنت اذاعة الجيش الصهيوني خبر الغارة ونجاحها ومن ثم انتشر الخبر ووصل الى صديقنا انزو فريزو فخاطب سي الحبيب لاعلامه وسؤاله عن الخسائر.

في الواحدة ظهرا وكان التونسيون جميعا ينتظرون نشرة أخبار الاذاعة الوطنية لعلها تفيدهم بالخبر اليقين. ورد الخبر المتعلق بالغارة في الرتبة 13 وفيه " أن طائرات مجهولة الهوية جاءت الى تونس من جهة الجنوب والقت سيلا من القنابل على عدة مواقع في العاصمة. انتهى."