في قلع الحلفاء من جبل "الكميم" والنزر الزهيد مما تعطيه الايدي الناعمة الى الايدي الدامية
في زمن ما كان قلع الحلفاء في جهتنا مصدر رزق.. يوفر لقمة العيش ويحول دون الكرامة ان تهدر..كنت في التاسعة من العمر وكنت اذهب مع بعض الاقارب إلى قلع الحلفاء ..المسافة من دارنا إلى "جبل الكميم" حيث منابت الحلفاء تقارب العشرين كيلمترا...خالي يمتلك جملا وشباكا .الشباك للف الحلفاء والجمل لنقلها او للكراء..واعددنا الرحيل قبل الفجر ..خيرني خالي ان امتطي معه الجمل او ان اركب الحمير..فاخترت الجمل وكنت افضل لو حشرني مع النسوة في العربة ذات العجلات العملاقة والتي خصصت لهن دون غيرهن والتي يجرها بغل اخضر تسف حوافره التراب سفا..
وبدت لي الحلفاء خضراء متموجة تملأ الرحب وتحجب الافق..كان دوري دور متربص ارعى الدواب ان لا تطيش وقرب الماء اسقي منها كل ذي ظمأ..
كنت اتابع حركة قلع الحلفاء .. كان الرجال اشداء مع هذه النبتة المتمسكة بالارض . يشدون المقلاع باليسار ويلفون حوله الخصلة من الحلفاء ويجذبونها إليهم بكل قواهم ويكدس كل قلاع ما اقتلع ليلفه في حزمة ..ويصفف الحزم متحاذيات تنتظر اللف في الشباك لتنقل إلى المنشر على ظهور الدواب..توزن وتسعر وتضم إلى غيرها مما يقتلع الناس من كل فج عميق وتصصف حول آلة كباسة وترفع إلى عربات الشحن متراصة متناسقة متضامة لتوسق إلى محطة القطار في المدينة..
المقلاع مطرف كالعصا اشبه بيد المهراس يصعب على النسوة حذق استعماله فيلجان إلى التخلي عنه ويظللن يقتلعن الحلفاء بايديهن حتى تتشقق الأطراف والاكف وتدمى الايدي ..يللففن الأيدي في أطراف عبابينهن ويواصلن القلع حتى يخرج الدم من خلال الثوب ويمتزج بدمع رقراق.
كنت اخذ بعض الزيت خلسة واعطيهن اياه ليخللن به اصابعهن فيخف الضنى.
ولكن امي لم تشعرني انها مع النسوة يقتلعن الحلفاء...رأيتها آخر من رأيت تتخفى عني..اقبلت عليها اتفحصها.. اخذت يدها لاقبلها..كان الدم يسيل من خلال ضمادة اصطنعتها من ثوبها ..بكت وبكيت
كانت الأيدي الناعمة أعطت للايدي الدامية نزرا زهيدا نصيبا لحزمات الحلفاء .كانت أمي تدخر لي من نصيبها ما أخذه حين ارجع إلى المدرسة لاقرأ.
بقلم الهادي.ع.الغضباني (نصوص من الدفتر)